كان لافتاً منذ ايام الموقف الذي اعلنه وزير الدفاع الاميركي السابق جايمس ماتيس في حديثه عن القضاء على تنظيم "داعش" الارهابي، حيث اكد "ان هزيمة التنظيم لا تتمثل بانتزاع الجغرافيا التي كان يمتلكها سابقا، فهو فكرة يجب هزمها وهذا أقوى وأصعب ويتطلب وقتا أطول"(*). قوّة هذا الموقف تكمن في انه يتباعد بشكل كبير مع وجهة نظر الرئيس الاميركي الحالي دونالد ترامب الذي ينأى بنفسه عسكرياً عن القضاء على "داعش"، معتبراً انه تنظيم بات من الماضي وانتهى.
هذان الموقفان المتعارضان، انما يشيران الى مدى الشرخ الكبير الذي يصيب الوضع الاميركي الحالي، والذي بسببه ترك ماتيس منصبه كوزير للدفاع، فالحروب والعمليات العسكرية شيء، والسياسة شيء آخر. لكن ترامب يملك دائماً الافضلية في هذا الصراع، لانه اولاً رئيس منتخب من الشعب، وثانياً القائد الاعلى للقوات المسلحة ويجب بالتالي تنفيذ اوامره. ولكن الخيط الرفيع هو في التفصيل الكامن بين الحدّين الفاصلين للصراع، والذي تملكه عناصر الاستخبارات واجهزتها على غرار "وكالة الاستخبارات الاميركية" CIA التي يمكنها تنفيذ عمليات امنية دقيقة بسرية، من شأنها ان تغيّر المعادلات وتجبر القوى السياسية على "الانصياع" الى رغبات القوة العسكريّة في كثير من الاحيان، كما ان مجرد تقديم معلومات استخباراتية (صحيحة ام خاطئة) قد يكون احياناً الحافز الكافي لتغيير الرأي السياسي السائد وجعله اكثر قرباً من الرأي العسكري.
ترامب احتاط على ما يبدو لهذا الامر، لذلك اجرى منذ وصوله الى الرئاسة، تغييرات "بالجملة" لوزراء الدفاع ومسؤولي الاجهزة الامنيّة الذين يمكن ان يؤثروا سلباً على قراراته ومواقفه، ليكون بالتالي الآمر الناهي في هذا المجال. وماتيس، الذي كان احد ضحايا هذا التدبير، علم انه دفع ثمن تناقض وجهات النظر، ولكن ذلك لم يمنعه من التدليل على انه لا يمكن للولايات المتحدة ان تقضي على "داعش" اذا استمر المنحى الذي تتبعه، وبالتالي يجب تغيير هذا النهج والعودة الى ما يوصي به الفكر العسكري، والاهم بناء عنصر الثقة مع الحلفاء بدل استهدافهم والتقاتل معهم سياسياً.
بمعنى آخر، يقول ماتيس انه لا يمكن لاميركا وحدها القضاء على "داعش" ولا حتى الادعاء بالقضاء عليه، لان السيطرة على الاماكن الجغرافية التي كان يتواجد فيها لا تعني اقتلاع التنظيم الارهابي من جذوره، لانه مغروس في افكار وعقليّة الشباب في اكثر من بلد، وعليه، يجب الاستعانة بالحلفاء لتشكيل جبهة موحدة حقيقية وواقعية قادرة على اكمال المهمة ومواصلة الحرب مع هذا التنظيم على مختلف المستويات، عسكرياً وامنياً وثقافياً واجتماعياً، وعندها فقط يمكن الحديث عن التغلب على "داعش" والقضاء عليه.
اقرار ماتيس بعدم قدرة اميركا على انهاء "داعش" يجب التوقف عنده والتأمل فيه ملياً، لانه كلام منطقي وان لم يرق للبعض، ويجب الاتفاق على اسلوب واحد يوحّد الجهود ويجعلها تخدم هدفاً واحداً، بعيداً عن السياسة والمصالح الضيقة الموقتة، لان الخطر قد يعود في اي وقت، ولا يحتاج الى اذن بل الى موافقة شخص او شخصين ممن يتولون المسؤولية في الدول الكبرى، ولنتذكر جميعاً كيف انطلق هذا التنظيم الارهابي وانتشر كالنار في الهشيم ليغدو بين ليلة وضحاها شبه دولة فرضت نفسها بقوة الآخرين واقامت هيكلية متينة، وخطراً محدقاً بدول العالم اجمع. انها لعبة الكبار، ولكنها تخرج عن قواعدها وضوابطها عندما تدخل السياسة في تفاصيلها، ويصبح من الصعب جداً التخلص من نتائجها الا عبر الاصرار وتغيير المقاربة في التعاطي معها، هكذا كانت جماعة "طالبان" وهذا ما تعلمناه من دروس "القاعدة".
(*): الموقف اتى خلال مقابلة اجراها مع محطة CNN الاميركية بتاريخ 3 ايلول 2019.