لم يزل لبنان والإقليم تحت تأثير ارتدادات الاعتداء الإسرائيلي الذي أسفر عن استشهاد اثنين من كوادر حزب اللـه في سورية والذي استتبع باعتداء إسرائيلي من نوع آخر بوساطة المسيرات على ضاحية بيروت الجنوبية التي تعتبر معقلاً لحزب اللـه وذلك لتنفيذ عملية تفجير متقنة ومعقدة من دون ترك آثار وبصمات أو دليل على تورط العدو الإسرائيلي.
لكن ومع إخفاق عملية التفجير الإسرائيلية بالمسيرات في الضاحية الجنوبية ومنع العدو من تحقيق مأربه وإحباط عملية «الهدف الثمين» عاش لبنان والمنطقة أجواء مشحونة تنذر بحرب شاملة.
ظهر الأمين العام لحزب الله حسن نصر اللـه في خطاب وعد فيه بالرد على اعتداءات إسرائيل معتبراً أن ما قام به العدو من اعتداء على أفراد من المقاومة في سورية وما تلاه من اعتداء على معقل حزب اللـه إنما هو كسر لقواعد الاشتباك وإلغاء للاتفاق رقم 1701 ونسف للخطوط الحمراء وللخط الأزرق على الحدود بين فلسطين ولبنان الذي تم ترسيمه عام 2006 ما يعني دخول لبنان في مواجهة مفتوحة مع العدو الإسرائيلي.
هنا لا بد لنا من الإضاءة على الأسباب التي دعت نصر اللـه إلى اعتبار ما قام به العدو الإسرائيلي من اعتداءين متتاليين في سورية ولبنان إنما هو اعتداء بقصد الإطاحة بقواعد الاشتباك المتفق عليها من ثم فرض قواعد اشتباك جديدة حيث يريد العدو الإسرائيلي.
منذ اغتيال العدو الإسرائيلي القيادي في حزب اللـه حسان اللقيس في قلب الضاحية الجنوبية في عام 2018 جرت محاولات دولية وإقليمية حثيثة للضغط على حزب اللـه بعدم الرد.
جواب حزب اللـه للوسطاء كان إن قتلتم أفراداً من حزب اللـه أو اغتلتم أحداً من كوادر حزب اللـه غيلة فإن ردنا على العدو سيكون قاسياً ورادعاً.
ومنذ ذاك التاريخ بقي هذا الاتفاق غير المكتوب معمولاً به وبضمان الوسطاء حيث كانت طائرات العدو الإسرائيلي تقوم بغارتين متتاليتين على شحنات الأسلحة المرسلة من سورية إلى لبنان، في الغارة الأولى تعتبر غاره تحذيرية بحيث لا تؤدي إلى وقوع شهداء في صفوف حزب اللـه أما الغارة الثانية فتنفذ على الأهداف العسكرية، إنما ما جرى مؤخراً من اعتداء إسرائيلي على أحد مساكن كوادر حزب اللـه الذي أسفر عن استشهاد اثنين من الكوادر المهمة إضافة إلى محاولة اغتيال فاشلة في الضاحية ومن غير بصمات أو دليل بوساطة المسيرات الإسرائيلية، لهي دليل كاف على رغبة العدو بتغيير وفرض قواعد الاشتباك المعمول بها.
لبنان والعالم ترقب رد المقاومة واحتمال اندلاع حرب لن تبقى محصورة بين لبنان والعدو الإسرائيلي في حال نشوبها لأنها وبالتأكيد ستشمل محور المقاومة بأسره في لبنان وسورية والعراق وغزة وحتى اليمن ما يعني تغييراً بميزان القوى والإطاحة بتوازنات إقليمية ودولية.
دخلت أميركا وروسيا على خط التهدئة لضمان عدم اندلاع حرب إقليمية شاملة فلكل من روسيا وأميركا حسابات ربح وخسارة دقيقة تحسب في ميزان كل منهما لا يمكن التفريط أو التضحية بها لأنه وفي حال نشوب حرب شاملة فإن الجميع سيكون خاسراً بمن فيهم العدو الإسرائيلي.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداخل على فترة التجهيز لخوض الانتخابات الرئاسية في أميركا يسعى جاهداً إلى التقرب من إيران وهو يريد استرداد تركيا من الحضن الروسي وهو الساعي لإدخال العدو الإسرائيلي كشريك في الحلف الخليجي المزعوم لحفظ أمن مياه الخليج وهو الساعي لإجراء محادثات مع الحوثيين لإنهاء الحرب في اليمن ولم يزل يملك أوراقاً مهمة في العراق وشرق الفرات السوري وهو المسيطر على دورة المال العالمي من خلال العقوبات الجائرة إنما كل ذلك يعتبر آيلاً للسقوط والخسارة في حال اندلاع الحرب الشاملة.
أما روسيا بوتين الصاعدة المستعيدة لدورها الدولي والإقليمي انطلاقاً من الساحة السورية فهي التي تتمتع بعلاقات جيدة مع كل الفرقاء في المنطقة ومع الكيان الصهيوني وهي التي تحافظ على حلف إستراتيجي مع إيران وسورية وهي التي حققت بالاشتراك مع الجيش العربي السوري إنجازات مهمة ومؤثرة في الحرب على الإرهاب في شمالي سورية وفرض قواعدها على تركيا من خلال اتفاق جديد جرى بين بوتين وأردوغان بانتظار تأكيده خلال الاجتماع الثلاثي بين روحاني بوتين أردوغان خلال الشهر الحالي كلها تعتبر إنجازات روسية على حين إن روسيا وجدت أنها مهددة بالإطاحة بكل تلك الإنجازات في حال نشوب حرب متدحرجة بين لبنان والعدو الإسرائيلي.
إذاً لا رغبة للقوتين الروسية والأميركية بنشوب حرب كاسرة للقواعد والموازين حفاظاً على الإنجازات والمواقع لكل منهما.
ورغم الضغوط والرسائل الأميركية المباشرة وغير المباشرة ورغم رسائل العدو الإسرائيلي للجيش اللبناني ولحزب اللـه عبر قوات حفظ السلام بضبط النفس وبعدم الرغبة في الانجرار نحو الحرب إلا أن حزب اللـه كان لديه جواب واحد لا رجعة عنه: «الرد على العدو الإسرائيلي أولاً ثم البحث في ضبط النفس».
وفي أول أيام شهر أيلول 2019 جاء رد المقاومة المنتظر على العدو الإسرائيلي وبشكل مفاجئ ومدروس بحرفية عالية ومتقن من حيث المكان مع إمكانية التوسع بالرد إذا لزم الأمر.
ما أصاب أركان العدو بالصدمة.
ورغم هول الصدمة التي أصابت العدو الإسرائيلي إلا أنه ابتلع رد المقاومة مكتفياً بعدة قذائف على جنوب لبنان لغسل ماء الوجه.
سيناريوهات عدة تناقلها مراكز دراسات سفارات ومحللون حول مرحلة ما بعد الرد فبينما اعتبرت المقاومة أن ما جرى هو نسف وتغيير لقواعد الاشتباك يصر رئيس وزراء لبنان سعد الحريري على نجاح المساعي الروسية بلجم الأطراف واستمرار العمل باتفاق 1701 الذي قضى بإنهاء الأعمال العدائية بين الأطراف ومن ثم العودة إلى قواعد الاشتباك السابقة.
إلا أن إصرار العدو الإسرائيلي على الإضاءة المزعومة على مصانع لإنتاج الصواريخ الدقيقة في لبنان يدفعنا إلى ترجيح السيناريوهات التالية:
أولاً – انعدام عوامل ذهاب العدو إلى حرب شاملة وذلك لعدم توافر إمكانية تحقيق العدو الإسرائيلي لأي نصر بائن إضافة إلى وجود خلل فاضح بالاستعدادات الميدانية وفي الجبهة الداخلية الإسرائيلية وهذا ما يجعل العدو الإسرائيلي غير قادر على تحمل الخسائر الميدانية والبشرية ومهدداً بزوال كيانه.
ثانياً – أن يعمد العدو إلى ضربات وقائية على أهداف للمقاومة ما يستدعي رداً مقابلاً بالحجم والشكل مدروساً ومتقناً من المقاومة لكن بحيث لا يؤدي إلى نشوب حرب.
ثالثاً – اعتماد نتنياهو نفسه تصعيد وتيرة التوتر بالإغارة على أهداف يدّعي نتنياهو أنها أهداف مهمة وذلك لصرفها في الداخل الإسرائيلي خصوصاً أن نتنياهو على أبواب انتخابات جديدة لكن المقاومة ستكون بالمرصاد حسب المعادلة الجديدة وهنا يمكن لنتنياهو تطوير رد المقاومة للاستفادة منه داخلياً وتحويله إلى اشتباك يدوم لأيام أو أسابيع لكنه يبقى اشتباكاً مضبوطاً.
يخطئ من يعتقد أن رد المقاومة على اعتداءات العدو الأخيرة قد انتهى بيد أن حساب المسيرات على الضاحية لم يزل مفتوحاً وأن مرحلة ما بعد الرد ستكون محكومة بالرد الحتمي.