لا تبدو الأوساط المراقبة متشائمة لجهة ذهاب الشرق الاوسط الى حروب مفتوحة، لكنّها في الوقت نفسه لا تبدو متفائلة حيال حدوث اختراقات أساسية تنتج اتفاقات وحلول وتسويات، كما يجري الترويج لها إعلامياً. الأكثر ترجيحاً هو استمرار الوضع على ما هو عليه، اي اهتزازات متنقلة على ساحات الصراع في الشرق الاوسط لا تصل الى مرحلة الحروب، ولكنها لا تفتح أيضاً أفق الحوار والتسويات، ولبنان هو أحد هذه الساحات.
بدءاً من اليوم، هناك ثلاث محطات رئيسية ستؤكد ضبابية الصورة.
المحطة الاولى، تتعلق باجتماع أنقرة بين رؤساء روسيا وايران وتركيا.
وتباعد بين الاطراف الثلاثة تناقضات كثيرة حيال مصالحها في سوريا: الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي صار مقتنعاً أنّ أحد أهم أسباب تراجع بريقه داخل بلاده له علاقة بالاخفاقات المتكررة في شمال سوريا، يدفع في اتجاه ضرب الاكراد من جهة، وبسط نفوذ تركيا المباشر على الشمال السوري، ودفع العدد الأكبر من الثلاثة ملايين سوري الذين نزحوا الى تركيا الى تثبيت إقامتهم في منطقة شمال سوريا.
امّا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اللاعب الأكثر تأثيراً، والذي كسب موقعاً عالمياً بسبب حضوره العسكري في سوريا، فهو أيضاً يعاني محدودية قدراته الاقتصادية، ما انعكس عليه سلباً داخل روسيا، وهو ما ظهر في نتائج الانتخابات البلدية في موسكو.
صحيح أنّ موسكو تحقق تقدماً واضحاً في إعادة بناء الجيش السوري وفق عقيدة قتالية مُشابهة لعقيدة الجيش الروسي، حيث يجري تنفيذ دورات عسكرية متتالية لضباط الجيش السوري في المعاهد العسكرية الروسية، إلّا أنّ قدرات روسيا الاقتصادية لا تسمح بترك الاستنزاف مفتوحاً، حيث كلفة الحرب مرتفعة وفوق طاقة القدرة الروسية.
اما الرئيس الايراني حسن روحاني، الذي يمثل في العادة الموقف الرسمي السوري، فهو يريد إنهاء وضع إدلب وحسم المعركة، ولو جاءت كلفتها مرتفعة، لأنّ استمرار الوضع على ما هو عليه سيعني كلفة أكبر.
تدرك ايران أنّ روسيا تمنع الحسم بذريعة عدم كسر الجرة مع تركيا، التي تقترب أكثر فأكثر من موسكو على حساب علاقتها بواشنطن. لكنّ الحقيقة أنّ الطيف الاميركي سيكون جاثماً داخل قاعة الاجتماع، وروسيا لن تُقدم على عمل كبير بهذا الحجم من دون تفاهم كامل مع الاميركيين خشية تبعات أيّ عمل منفرد على نفوذ روسيا في أماكن أخرى حساسة، مثل اوكرانيا.
وقد تكتفي روسيا بعملية تسمح بإعادة فتح الطريق السريع الذي يربط إدلب بحماه المعروف بـ M5، والطريق الذي يربط حلب بدمشق المعروف بـ M4.
أمّا المحطة الثانية فهي يوم غد مع نتائج الانتخابات الاسرائيلية، حيث يستميت رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو للفوز بإعادة تكليفه بتشكيل الحكومة. ولا حاجة للتذكير مرة اخرى بأنّ خسارته ستعني ربما دخوله السجن وإدانة زوجته بالفساد.
وبخلاف المرة السابقة فإنّ الرئيس الاميركي دونالد ترامب تحاشى تقديم «هدايا» انتخابية إضافية لنتنياهو، بل بَدا الرئيس الاميركي بارداً في مقاربته لهذه الانتخابات خلافاً لرغبة نتنياهو، الذي ملأ الطرقات بصور تجمعه بترامب وأخرى ببوتين.
وفي روسيا حصل ما كان يخشاه نتنياهو، فالاستقبال الذي أمل توظيفه انتخابياً مع جالية روسية تفوق المليون شخص، انعكس وَبالاً عليه.
فبوتين، الغاضِب من نكران جميل نتنياهو بسبب زيارته لأوكرانيا والتفاهم معها، تَعمّد ترك نتنياهو ينتظر لحوالى 3 ساعات قبل استقباله ببرودة. وسبق ذلك منع الطائرات الحربية الروسية غارات كانت تعتزم الطائرات الحربية الاسرائيلية تنفيذها، وتوظيفها في سياق صورة القائد القوي لنتنياهو. بل على العكس، فإنّ الغارة الاسرائيلية على منطقة «ابو كمال»، والتي استهدفت الممر البرّي الذي يربط ايران بلبنان، حملت رداً إيرانياً يحصل للمرة الاولى عبر إطلاق صواريخ من ضواحي دمشق في اتجاه جبل الشيخ، برغم صعوبة التصويب بفِعل فارق الارتفاعات، لكنّ وقعها المعنوي كان كبيراً كونها حملت بصمات إيرانية واضحة، ويكفي أن تقول «الاندبندنت» البريطانية إنّ شيئاً ما تَصدّع في العلاقات الروسية - الاسرائيلية لينعكس ذلك على اقتراع الجالية الروسية في إسرائيل.
بل إنّ ظهور نتائج الانتخابات لن يوضح الصورة في اسرائيل، في انتظار تشكيل الحكومة وتركيبتها في ظل قناعة واسعة، ولاسيما اميركية، بأنّ «صفقة القرن» أصبحت بعيدة عن الواقع مع الازمات التي تحاصر رجالاتها في المنطقة.
تبقى المحطة الثالثة، والمتعلقة باحتمالات حصول لقاء بين الرئيسين الاميركي والايراني على هامش أعمال الجمعية العمومية للامم المتحدة، فإنّ الايجابيات التي سادت خلال الاسابيع الماضية لا تبدو واقعية، خصوصاً من الجانب الايراني.
ولقد صَدر التفاؤل بحصول اللقاء عن الجانب الاميركي، خصوصاً بعد الوساطة الفرنسية. فالاحداث التي تلاحقت بعد رزمة عقوبات ايار الماضي، والتي اتخذت منحى تصعيدياً خطيراً في مياه الخليج، أظهرت أنّ الادارة الاميركية لم تحسب بعيداً في مشوار ضغوطها، وانّ ترامب يفتقد الحلول، وهو باتَ مقتنعاً بضرورة استعادة الحوار مع طهران، لأنّ الحرب ليست واردة.
أضف الى ذلك تعثّر الورقة الاقتصادية الاميركية، والإخفاق المتلاحق في السياسة الخارجية، والتي كان آخرها في افغانستان، حيث لن يحقق ترامب وَعده الانتخابي بِطَي الملف الافغاني، ما يدفعه الى البحث عن صفقة اخرى لتقديمها للناخبين. لكنّ نظام الملالي في ايران، الذي عاش نكسة مريرة بسبب خروج ترامب عن الاتفاق، لا يبدو في وارد منح الرئيس الاميركي نصراً خارجياً في إطار حملته الانتخابية. وفي استعادة مُشابهة لِما حصل آخر ايام رئاسة جيمي كارتر، حين حاول جاهداً إتمام صفقة إطلاق الديبلوماسيين الاميركيين المحتجزين لاستثمارها في حملته الانتخابية، فإنّ الايرانيين رفضوا ذلك وانتظروا الى ما بعد انتهاء الانتخابات.
قد تكون طهران في سياق تكرار سلوكها، إلّا اذا تراجع ترامب عن عقوبات ايار الماضي، أو رَضخ للشرط الايراني بأن تضمن اوروبا وصول العملات اليها مباشرة ومن دون قيود، أي ضمان آلية تحويل الاموال. في هذا الوقت ستندفع ايران، وهي تَتكئ على دعم صيني وروسي متين، في تطبيق معادلتها القائمة على مبدأ العودة الى ما قبل ايار، أو التراجع التدريجي عن التزاماتها النووية.
ذلك أنّ الاعتراف الاميركي بنفوذها الاقليمي أصبح وراءها، وهي مقتنعة بأنه ليس مهدداً او ركيكاً، بل هو صلب، وأضحى أمراً واقعاً.
وإثباتاً لذلك، وانسجاماً مع المناخ السياسي السلبي، شهدت ساحات الشرق الاوسط توترات متنقلة، في العراق كما في سوريا، وايضاً لبنان، وفي غزة وصولاً الى ساحة الصراع اليمني - السعودي وقصف «ارامكو». صحيح أنه لكل حادثة أسبابها المنفصلة عن الحوادث الاخرى، إلّا انه لا شك في وجود رابط بينها، وهو السلوك الايراني الهجومي والتخاطب الامني مع واشنطن. آخر هذه الاحداث طالَ «ارامكو» في عملية تعتبر قوية، ذلك انّ استهداف شركة النفط العملاقة يعتبر استهدافاً مباشراً لواشنطن، وهو ما قصدته ايران تحديداً.
العملية معقّدة وتحمل جوانب غامضة حول كيفية وصول الطائرات المسيّرة، وما اذا كانت هنالك «مساعدة» داخلية، ام أنها بسبب صواريخ دقيقة أطلقت من البعيد... لكنّ استهداف «ارامكو» جاء بعد أقل من أسبوعين على تعيين رئيس جديد لمجلس الادارة، وحيث يترقّب العالم طرح خمسة في المئة من أسهمها للاكتتاب الاولي، في خطوة تشكّل أكبر عملية للاسهم في العالم، وقبل انعقاد الجمعية العمومية للامم المتحدة.
وهو ما يعني باختصار انّ التوترات المتنقلة ستسود ساحات الشرق الاوسط في المرحلة المقبلة، وقد لا يكون لبنان بعيداً عنها.
وهو ما يعني انّ ترسيم الحدود البحرية والبرية مع اسرائيل مؤجّل، في مقابل دفعات جديدة من العقوبات الاميركية تُطاوِل لبنانيين. ويبدو انّ الاسماء وضعت، وهي تضم رجال أعمال وسياسيين، بعضهم من الطائفة المسيحية. وانّ الاعلان عنهم مرتبط بالظروف السياسية والسلوك السياسي.
وتكفي الاشارة الى انّ برنامج لقاءات الرئيس اللبناني في نيويورك لن يلحظ لقاء مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى للسنة الثالثة على التوالي، كالرئيس الاميركي او وزير خارجيته.
وفي المقابل سعى وزير الخارجية جبران باسيل لتأمين لقاء له مع نظيره الاميركي، وذكرت مصادر ديبلوماسية انه جاء مَن يَتوسّط توم براك، شريك ترامب وصديقه الحميم خلال زيارته لبنان منذ حوالى الشهر، كي يعمل على تأمين لقاء في الولايات المتحدة الاميركية بين باسيل وبومبيو، خصوصاً انّ توم براك ولد في زحلة ولديه عاطفة قوية تجاه بلده الأم لبنان.