يبدو واضحاً أنّ الرئيس سعد الحريري لن يرتكب أيّ غلطة تهزُّ «الستاتيكو» الذي جاء بموجبه إلى رئاسة الحكومة. لا يريد العودة إلى زمنٍ رديء كان فيه قبل 3 سنوات، ولا يريد أن يخسر زمن المكاسب التي تنتظره في 3 سنوات مقبلة. لذلك، لم «تشغل بال» «حزب الله» زيارة الحريري واشنطن ولقاءاته الوزير مايك بومبيو وصقور الخارجية والأمن القومي، على رغم كل الهمس الذي دار حولها. حتى إنّ أحد المطلعين يقول: «الحزب» مطمئن إلى كل ما يفعله الحريري حالياً... ولو كان في المرِّيخ»!
قبل أيام، رضخ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط مرّة أخرى لـ«الواقعية» المعروفة، بعد معاندة قاسية: تصالَح مع «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» في يوم واحد، وبشكل دراماتيكي. فسقطت زيارةُ الدكتور سمير جعجع التي كانت مقرَّرة للجبل، في اليوم عينه. لكن «معمودية» جنبلاط الجديدة داخل «الستاتيكو» لم تتحقَّق إلّا في لقائه الحريري في كليمنصو. لماذا؟
لأنّ جنبلاط، أساساً، «عرّاب» الحريري في الواقعية، ولأنهما جاءا معاً من فريق 14 آذار الذي كان بقيادتهما عام 2005، واختارا منطقة وسطى بين 14 و8 آذار. وبالنسبة إلى جنبلاط، يتمايز الحريري عن الشركاء الآخرين في التسوية بأنه يعترف بزعامته على الدروز، بلا منازع، فيما «الحزب» و«التيار» يلعبان أوراقاً أخرى داخل الطائفة كلما استدعت مصالحهما ذلك.
وفي اقتناع المتابعين أنّ جنبلاط الذي سبق الحريري في التموضع بشكل متمايز عن نهج 14 آذار «الأساسي»، كان له الدور الأكبر في تمكين 8 آذار من «اصطياد» الحريري إلى التسوية عام 2016. وقد كافأه حليفه الرئيس نبيه بري و«الحزب» على هذا الدور بتثبيت موقعه في المعادلة. لكن أزمة جنبلاط وقعت عندما اصطدم بـ»التيار» الذي أراد أن ينتزع منه دوره كـ«بيضة قبّان».
الحريري محشور في هذه الخلطة المعقدة. يفضل أن يبقى جنبلاط إلى جانبه. ولكن، إذا اضطر إلى أن يختاربينه وبين الشركاء في التسوية، كالوزير جبران باسيل، فإنه لا يتردَّد في إعطاء الأولوية للتسوية. وبين جنبلاط و«بيت الحريري» كثير من الأسرار والخبز والملح منذ زمن الرئيس رفيق الحريري، ولكن، التضارب في المصالح وتقاسم الحصص «يسوِّد الوجه» أحياناً، ولكنه قابل للمعالجة.
وطبعاً، علاقة الحريري بجعجع ليست مبنية على المعادلة إياها. فرئيس الحكومة لا يتردَّد في استجابة مطالب باسيل، على حساب جعجع، لأنّ مصلحته تقتضي ذلك. وهو، قبل يومين، لم يتورَّع عن فتح السجلات القديمة وتوجيه انتقاده القاسي الى «القوات»، ومن دارة جنبلاط، وفي حضوره، مذكّراً بمواقفها أبان أزمة تشرين الثاني 2017 وخلال إعداد موازنة 2019 والتعيينات، عندما قال: «اسألوا «القوات» عما فعلوه بنا!»
وهكذا، إنّ ثلاثي 14 آذار- سابقاً- (الحريري- جنبلاط- جعجع) هو في حال تفكّك كامل: الحريري يمشي في التسوية، وكما يريدها «حزب الله»، بلا تردّد. وجنبلاط يتمرَّد كلما أراد الحصول على مبتغاه، و«يدبّر رأسه» كلما اقترب من السقوط في الهاوية.
وأما جعجع فضائع بين اتجاهين: لا يريد خسارة السلطة وما تمنحه من عناصر قوة، لكنه عاجز عن تحصيل ما يريد أو تغيير شيء. والأرجح أنه سيعاني كثيراً، في الفترة المقبلة، وحيداً، وفي الاتجاهين.
يؤكد القريبون من الحريري أنه سيبقى تحت سقف التسوية، أياً تكن الظروف، وأنّ زواج المصلحة بينه وبين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» له الأولوية على «ذكريات الغرام» التي كانت قائمة ذات يوم بينه وبين جعجع أو سواه. فهو جرَّب «رومانسية المواقف والشعارات» قبل 2011، وانتهى إلى البقاء سنوات خارج السلطة والبلد، وتعرَّض تيار «المستقبل» لأزمات جدّية.
ولذلك، هو اليوم لا يرى بديلاً من التسوية التي جاءت به إلى السراي، بأيّ ثمن، ولو على حساب الحلفاء السابقين. وقد جاءت الاستحقاقات الاقتصادية والمالية الداهمة لتزيد في تبرير موقفه. وهذا ما عبّر عنه عندما سئل عن موقف «القوات» بالقول: إننا ملتزمون تسريع الخطى، ضمن مهلة الـ6 أشهر المعطاة لنا، ولن أدع أحداً يؤخّر مسيرتنا».
في الخلاصة، سيبقى الحريري في وضعية المهادنة لـ«حزب الله» على رغم الضغوط الأميركية والخليجية التي تدعوه إلى مواجهة «الحزب» ومنعه من السيطرة على القرار. كما أنه سيحافظ على التعاون وتقاسم المصالح مع «التيار الوطني»… تاركاً للتطورات الجارية إقليمياً ودولياً أن تحسم الخيارات تلقائياً في النهاية، فلا يدفع الحريري ثمنها من حسابه. وعلى العكس، هو يستعد لتحقيق مكاسب نوعية في السنوات الثلاث الباقية من عهد الرئيس ميشال عون.
ويعتبر الحريري أنه اليوم يحظى بتقاطع القوى المحلية حوله، إضافة إلى الدعم العربي والدولي، وأنّ هذا التقاطع سيستمر طوال السنوات الثلاث المتبقية من العهد. ما يتيح له أن يقطف الحدّ الأقصى من المكاسب. ومن النادر أن يستطيع رئيس للحكومة أن يحافظ على موقعه طوال عهد رئاسي كامل.
ولذلك، يصرّ الحريري على عدم تفويت الفرصة. وهو لن ينجرف في أيّ مغامرة سياسية أيّاً تكن طبيعتها، وأيّاً كان الداعي إليها- حليفاً سياسياً كان أم خصماً. فهو على الأقل باقٍ 3 سنوات أخرى، بعد الـ3 التي أمضاها، والتي انتشلته من واقع النفي إلى السلطة.
وسُمِع في بعض أوساطه مَن يقول: ليس هناك من مجال للمراهنة على العودة إلى السراي، إلّا ضمن الصفقة المعقودة حالياً. لقد بقيت لي 3 سنوات مضمونة على الأقل، فلماذا الخربطة والمراهنة على أمور أخرى مشكوك فيها؟ إنّ 3 سنوات في الجيب… أفضل من 13 سنة في الغيب!