كاد ملف عملاء العدو الصهيوني ان ينسى، وكادت التسويات السياسية والغرائز الطائفية تخفي جرائم الخيانة والعمالة التي اقترفها بعض اللبنانيين بتغطية من بعض السياسيين في لبنان وظنّ أصحاب فكرة «التسوية وعفا الله عما مضى» أو «أنّ الزمن أسقط الجرائم»، ظنّ هؤلاء انّ الطريق بات معبّداً أمام نزعتهم في إقفال ملف من يسمّونهم هم وبلغتهم هم «المبعدون الى إسرائيل قسراً»، وانّ بإمكانهم القفز فوق دماء الشهداء وعذابات الأسرى وآلام المغتصبات، وانّ بإمكانهم إعادة هؤلاء العملاء الخونة المجرمين الى لبنان لاستئناف حياتهم، لا بل لاستئناف مهامهم التي يعوّل العدو عليهم فيها، مستندين في ذلك الى مقولة قانونية تتمثل بقاعدة «سقوط الجريمة بمرور الزمن» ومستأنسين بمبادرة أجهزة رسمية على شطب أسماء من أرادوا إعادته، شطبه من بيانات التعقب والملاحقة الأمنية التي تنظمها الأجهزة الأمنية وفقا للصلاحيات المعطاة لها للقيام بمهام حفظ الأمن في وجوهه المتعددة الوقائية والعلاجية.
كاد كلّ ذلك ان يحصل كله حتى كانت عودة «جلاد المعتقل الصهيوني في الخيام» عامر الفاخوري، الذي جنّدته «إسرائيل» ابان احتلالها للجنوب اللبناني والذي «رفّعته» في درجات العمالة لها ثمّ أسبغت عليه جنسيتها، الجنسية التي اتّكأ عليها ليحصل على الجنسية الأميركية، ليكون الشخص الوحيد كما نعتقد الذي جمع بين جنسيات ثلاث لبنانية وإسرائيلية وأميركية في الآن ذاته، في تناقض قانوني فاضح لبنان وإسرائيل في حالة عداء ولا يمكن الجمع بين جنسيتيهما بحسب القانون اللبناني فقد حرّكت عودة هذا العميل ملفاً كبيراً وأثبت فيه الشعب انّ لديه سلطة تعلو السلطات الرسمية وتتجاوز النصوص القاصرة.
نعم فجّرت مسألة دخول العميل الفاخوري الى لبنان واقعاً كاد ان يكون ساكناً، او قيد التصفية الناعمة، خاصة بعد اعتماد قانون «عودة المبعدين» وهي تسمية في غير محلها، فمن ذهب الى إسرائيل فرّ من لبنان ولم يبعده أحد، وهم فارّون من الوطن لاجئون الى العدو ، وأظهرت ثغرات كبيرة في النظام الأمني والقانوني والقضائي والسياسي حتى والبروتوكولي اللبناني، ثغرات تفرض نفسها اليوم وبقوة كبيرة نظراً لمخاطرها وتداعياتها على الأمن الوطني اللبناني وعلى الانتظام العام وحدود صلاحية هذه السلطة أو الجهاز أو ذاك والقيود المفروضة عليها في تعاطيها مع شأن يمسّ الأمن الوطني والسلامة والانتظام العام. ويمكن ان نتناول هنا بعض أهمّ هذه الثغرات كالتالي:
أولاً: تداول لوائح المشبوهين وتقليبها ومراجعتها. من المعروف انّ الأجهزة الأمنية منحت بمقتضى القانون ومن أجل القيام بواجباتها في المحافظة على الأمن وتطبيق القانون، انّ هذه الأجهزة تشتبه بأشخاص يفرض الواقع مراقبتهم، او يتصل بعلمها تشكل حالات يفرض عليها متابعتها وملاحقتها لمعالجتها، ومن هذه الحالات حالات التعامل مع العدو أو التجسّس او القيام بأعمال إرهابية إلخ… هنا تقوم الأجهزة بتعميم أسماء هؤلاء على كافة الأجهزة الأمنية من أجل وضعهم تحت المراقبة او من أجل توقيفهم إدارياً واحترازياً للتحقيق والوقوف على حقيقة أوضاعهم. وقد استقام التعامل في لبنان على إصدار بلاغات بحث وتحري أو تنظيم لائحة بالمطلوبين للأجهزة الأمنية وهي لائحة أمنية مستقلّة كلياً عن لوائح المطلوبين قضائياً. كما استقام التعامل على انّ أيّ شخص يدرج اسمه على لوائح المراقبين او المشبوهين أمنياً لا يشطب اسمه الا بعد ان يمثل أمام الجهاز الذي يمسك اللائحة ويتمّ التحقيق معه ويتأكد الجهاز بأن لا شبهة عليه، أو أن يكون في الأمر بعض الشبهات عندها يُحال الموضوع الى القضاء الذي يقرّر التوقيف او الإخلاء. أما في حالة العميل الفاخوري فقد تبيّن انّ الشطب حصل دون مثول ودون تحقيق ودون مراجعة قضاء وهنا الثغرة الخطرة التي يجب ان تسدّ ويجب ان يصدر قرار خطي من قادة الأجهزة الأمنية يضع قواعد واضحة ثابتة لتنظيم ومراجعة هذه اللوائح وبمنع حصول هذا الأمر، كما يمكن ان ترتقي المعالجة الى حدّ إصدار قانون ومراسيم تطبيقية تنظم عملية مسك هذه اللوائح ومواطن الشبهة وضرورات المراقبة الأمنية والتوقيف الإداري بشكل لا يترك فيه ثغرات.
ثانياً: مسألة سقوط الجرائم بمرور الزمن. صحيح انّ قانون العقوبات اللبناني أخذ بمبدأ سقوط الملاحقة بالجرائم بسبب مرور الزمن، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنه وضع قواعد لتطبيق هذا الأمر. وأهمّها انّ مرور الزمن لا يسري على الجرائم المتمادية، خاصة جرائم العمالة للعدو والتجسّس وخيانة الوطن، فهذه الجرائم تعتبر مستمرة قائمة طالما انّ الشخص مستمرّ في الاتصال بالعدو او في وضع يمكنه من الاتصال الأمن بالعدو بعيداً عن الوطن، وفي جريمة العميل الفاخوري يكفي ان نعرف انّ هذا العميل اكتسب جنسية العدو ويتحرك بجواز سفر إسرائيلي أضاف إليه جواز سفر أميركي ويديم اتصاله بالعدو انطلاقاً من إقامته في الولايات المتحدة، يكفي ان نعرف ذلك لنقول انّ جرائم هذا العميل مستمرة ومتمادية ولا تخضع لمرور الزمن وللقضاء اللبناني كامل الصلاحية في الملاحقة بها دون أيّ عائق او مانع قانوني. ويبقى ان نلاحظ انّ بعض جرائم هذا العميل مثل القتل والاغتصاب الذي مارسه ضدّ لبنانيين مقاومين للاحتلال واقترفها خدمة للعدو، قد تكون مشمولة بقواعد مرور الزمن وهنا تبدو ثغرة في قانون العقوبات اللبناني يكون على المشترع ان يسدّها بتعديل بسيط لأحكام هذا القانون ونطالب ان يُصار الى ذلك بأسرع وقت ممكن.
ثالثاً: توقيت عودة العميل ربطاً بأحداث ذات صلة بالوضع الأمني اللبناني. قد يظنّ البسطاء والأبرياء انّ عودة العميل الفاخوري الى لبنان إنما لا تعدو كونها مجرد عودة مواطن الى بلده بعد ان «أبعد عنه قسراً» عقدين من الزمن، وفي هذه النظرة والفهم تكمن الخطورة، لانّ تدقيقاً بالظروف وفحصاً للاعتبارات والأحداث التي سبقت العودة وتزامنت معها تنبئ بشيء أخطر بكثير. وهنا نذكر بما حصل منذ مجيء وزير خارجية أميركا بومبيو الى لبنان ولقاءاته مع سياسيين لبنانيين رسميين بروتوكولياً وحزبيين غير رسميين وهي اللقاءات الأهمّ وما أعقب الزيارة مباشرة وبدون مقدّمات من سلوكيات ومواقف صدرت عن الأطراف التي تحركها أميركا في لبنان، فكان الحديث عن وجوب طرح الاستراتيجية الدفاعية، وتحريك ملف العمال الفلسطينيين، وتضخيم ملف المعابر غير الشرعية والحدود مع سورية، وإنكار لبنانية مزارع شبعا، ثم ارتكاب جريمة قبرشمون وقتل مواطنين، وصولاً الى زيارة شينكر وتهديداته وإبلاغه من التقاهم وبشكل واضح انّ أميركا بصدد استكمال تنفيذ القرار 1559 ايّ «تجريد حزب الله من السلاح». ثم الحديث عن انّ هناك 230 عميلاً إسرائيلياً عادوا الى لبنان بجوازات سفر أميركية وانتشروا في المناطق ذات الأغلبية السكانية المسيحية.
انّ هذه الأحداث والوقائع والمواقف تتقاطع كلها عند عنوان كبير واحد هو تحريك الوضع الداخلي اللبناني في مواجهة المقاومة وسلاحها، وصولاً الى احتمال تفجير الوضع الأمني برمّته، وهنا يطرح السؤال الجوهري حول وجود خطة أميركية لتفجير هذا الوضع بوجه المقاومة؟ كما يطرح السؤال بصيغة أخرى هل انّ أميركا بعد أن عجزت في الإقليم عادت الى لبنان لتستأنف ما بدأته بقتل الرئيس رفيق الحريري في العام 2005؟ هذا وتشتدّ خطورة المشهد إذا قرناه او عطفناه على التدابير الإجرامية الأميركية بحق لبنان ولبنانيين ومؤسسات لبنانية تحت مسمّى العقوبات والحرب الاقتصادية ضدّ المقاومة؟
هذه الإضاءات تقودنا الى القول بانّ مسألة العميل الفاخوري هي رأس جبل الجليد الذي ظهر ولكن بقي المخفي أعظم بكثير من مجرد عودة عميل ليتحرك بحرية في وضع داخلي واهن افتضح أمره. ولذلك ندعو الى التعامل مع المسألة بأقصى درجات الجدية والحذر والخطر تساهم كلّ المؤسسات الدستورية والأمنية والسياسية في التصدي لما يُخطط للبنان ولما يحدق به من مخاطر، فقد يكون الفعل اليوم ممكناً للإنقاذ فإن لم نستفذ من الوقت فقد يرون الندم لاحقاً هو ما يتبقى.