يرى عُلماء الاجْتماع أَنَّ "الإِعْلام السَّلْبيّ"، وبالمُفْردات الَّتي يَسْتخدمها، وتُشوِّه صورة الأَنا الجَمْعيِّ عند الفَرْد، يَجْعل الرَّأْي العام يَخْسر شيئًا فشيئًا حماسته، ويَبْدأ في فقدان رَوابط الانْتِماء إِلى وطنه ومُجْتمعه، ويتَّجه بالتَّالي نحو سُلوكيَّاتٍ تمرُّديَّةٍ كالهِجْرة، التَّطرُّف، الإِرْهاب، الإِجرام"…
فاجْتِرار تلك الأَخْبار السَّلْبيَّة من الفَرْد، ويوميًّا، يُؤَدِّي به إِلى تقبُّلها كأَمرٍ واقعٍ، وبالتَّالي تُصْبح لَديْه تَوجُّهاتٌ سلبيَّةٌ، تُضْعف مُسْتوى الطُّموح والتَّفاؤل لديه، ما يُؤدِّي به إِلى فقدان الثِّقة في المُجْتمع من حَوْله، والأَمل في المُسْتقبل أَمامه؛ وبالتَّالي اتِّجاهه نحو التَّمركُز حَوْل الذَّات وخِدْمة الأَنانيَّة الفرديَّة... ويَبْرز السُّؤال في هذا الإِطار: هل يَعْلم مُروِّجو الإِعْلام السَّلْبيِّ ماذا يَفْعلون؟ أَمْ أَنَّ النَّكد السِّياسيَّ يُعْمي بَصائرهم؟... إِنْ كانوا لا يَعْلمون فتلك مُصيبةٌ، وإِذا كانوا يَعْلمون، فالمُصيبَة أَكْبر وبحَجْم الكارِثة الوطنيَّة والخُلقيَّة، إِذ إِنَّها تمسُّ في الجوهر "الأَخْلاق الإِعْلاميَّة"... وبالتَّالي فالمَسْأَلة إِذَّاك لا تَعود قَضيَّة حُريَّاتٍ إِعْلاميَّة بل جَرائم وطنيَّة!.
التِزامٌ ضَئيلٌ
إِنَّ القَليل مِن الوَسائل الإِعْلاميَّة –مَع الأَسَف– يَلْتزم الخِطاب الرَّاشد الَّذي يَنْتقد السَّلْبيات، ويُشيد بالإِيْجابيَّات، ويُثمِّن المُنْجزات والمُكْتَسبات، ويُسْهم في تَوْعية الأَفْراد، وتَغْيير نِظْرتهم ودَعْم سُلوكهم التَّعايُشيِّ داخل التَّجمُّعات الحَضريَّة، وتَكْريس مَبْدإٍ شِعاره: "إِنَّ الوطن فوق الجَميع وللجميع".
وتَكْمن المُشْكلة أيضًا في أَنَّ غالبيَّة الإِعْلام الإِلكترونيَّ الجَديد، كما وشَبكات التَّواصل الاجتماعيِّ (فيسْبوك، تويتر، يوتيوب...) تَسْتمدُّ الكَثير من مَصادرها وأَخْبارها، مِن الإِعْلام التَّقليديّ. وعلى رُغم أَنَّ الإِعْلام الإِلكْترونيَّ يَشْهد أَكْبر قدرٍ مِن التَّفاعليَّة والتَّأْثير، إِلاَّ أَنَّ غالبيَّة القَيِّمين على هذا الإِعْلام، ومَن هُم في مَوْقع القَرار، قد خَلَقوا مُناخًا أَنْتج ثَقافة صِراعٍ ونَبْذٍ وكَراهيَّةٍ بين مُخْتلف الأَفْراد... كما وأَدَّت وسائل الإِعْلام الحَديثة دورًا كبيرًا في تَغْيير تَوجُّهات الفَرْد، وتَحْريك الشَّارع وتَغْيير المُجْتمع وصولاً إِلى ما يُسمّى "ثَوْرات الرَّبيع العَربيّ"... وثمّة استِغْلالٌ سيِّءٌ للإِعْلام الإِلكْترونيِّ مِن بعض الفِئات ذات التَّوجُّهات الهدَّامة والمُتطرِّفة.
ومع الثَّورات التِّقنيَّة المُعاصرة، أَصْبح الاعْتماد على المَعْلومات الفَوْريَّة الَّتي تضخُّها وسائل الإِعْلام يَتزايد، لتَتزايد بالتَّالي مَخاطر الإِعْلام المُوجَّه وتَأْثيراته السَّلْبيَّة، وقد تَكون مِن أَخْطر هذه الأَدوات الإِعْلاميَّة البَرامج الإِخْبارية الحواريَّة (Talk show) غير المِهنيَّة، الَّتي تتعمَّد تَعْبئة الرَّأْي العامّ في اتِّجاهاتٍ سلبيَّةٍ، مُتجرِّدة عن الإِنْصاف والمَوْضوعيَّة. فقد يُحوِّل المُتَحدِّث -ولفَرْط مَهاراته الخِطابيَّة- الحقَّ باطلاً، والباطل حقًا، ويُلْحق بالكلام كلَّ ما في مَعْناه مِن أَدوات التَّأْثير المُعاصر من الصُّور والمَقاطع المَسْموعة والمَرْئيَّة وغيرها، والباحثون اليوم في مَجال الإِعْلام والتَّنْمية البَشريَّة وغيرها، يتحدَّثون عن فُنون التَّأْثير في العُقول، وغَسْل الأَدْمغة، ودَوْر وسائل الإِعْلام في ذلك...
ظُهور التَّطرُّف
ويَرى عُلماء الاجْتِماع أَيضًا، أَنَّ السَّبب في انْتِشار التَّطرُّف يَعود في جُزئيَّةٍ مُهمَّةٍ إِلى حال التَّناقض الَّتي يَعيشها كَثيرٌ من المُجْتمعات، بين سِيادةٍ كاملةٍ لنَموذجٍ تَقْليديٍّ على المُجْتمع، تُقابلها تَوجُّهاتٌ مُغايرة للإِعْلام بمَجْموع قَنواته ووسائِطه المُخْتلفة، فالفَرْد يُصْبح إِذَّاك في مُواجهة خِطابٍ مُتَناقضٍ، يتَّسم مُحْتواه الإِعْلاميُّ عُمومًا بالمُبالغة في فَرْض نَموذج الشَّخْصيَّة المُتحرِّرة الَّتي تُخالف الكَثير مِن مُتطلِّبات النَّموذج التَّقليديِّ، ما يُولِّد النُّفور والرَّفض في نُفوس الكثير مِن الشَّباب المُحافظ... وأَمَّا الخِطاب الإِعْلاميُّ في هذه الحال، فيُناقض ما نشأَ عليه الشَّباب مِن أَخْلاقٍ وقيمٍ وأَعْرافٍ وتَقاليد...
بين اسْتِبعاد الخطاب الرَّاشد أو تَغْييبه، وتَنامي "وَحْش" الثَّورات التِّقنيَّة المُعاصِرة والعَمْياء، ووسط التَّناقُضات الاجْتماعيَّة الهائِلة... باتَ التَّطرُّف اليوم، وليد الإِعْلام السَّلبيِّ ومِن رَحمه يُبْصر النُّور، وللحَديث صِلَةٌ...