الخلافات العقاريّة بين الأقضية والبلدات ليست بالأمر الجديد بسبب تضارب في الخرائط القديمة وغياب المسح الشامل الحديث من جهة، وبفعل مُحاولة بعض الأطراف فرض أمر واقع عن طريق الإستقواء من جهة أخرى. ولبنان يُعاني من هذه المُشكلة في أكثر من مكان، منها لا يحمل أيّ خلفيّات طائفيّة كما هي الحال مثلاً بين بلديّتي بعبدا والحازميّة، ومنها ما يُثير حزازيّات طائفيّة بسبب الطبيعة المُختلطة للمنطقة المَعنيّة، كما هي الحال مثلاً بالنسبة إلى التعدّيات اللاحقة بأرض الكنيسة المارونيّة في بلدة لاسا، والخلافات على مشاعات العاقورة، في قضاء جبيل. ومن ضُمن هذه الخلافات، خلاف قديم-جديد بين منطقتي بشرّي والضنيّة بشأن ترسيم الحدود في القرنة السوداء، تفاقم أخيرًا بعد مُحاولة إنشاء بركة إصطناعيّة لتجميع المياه في القرنة لصالح مشاريع ريّ المزروعات في قرى الضنيّة. فما الذي يحصل، وكيف تحوّل الأمر من خلاف عقاري، إلى نزاع طائفي وسياسي؟.
بداية لا بُد من التذكير أنّه في العام 2010 تمّ تشكيل لجنة لحلّ الخلافات العقارية التاريخيّة بين بشرّي وبقاعصفرين، وقد تمكّنت هذه اللجنة من تأمين التوافق المطلوب على أكثر من تفاهم بين المنطقتين، أحدها قضى مثلاً بتأهيل بركة العطارة في منطقة بقاعصفرين، على أن يتمّ تجميع المياه من نقاط مُحدّدة وجرّها إلى الأراضي الزراعيّة في المنطقة، وتمّ تكليف الهيئة العُليا للإغاثة بوضع الدراسات اللازمة لذلك، وبتغطية تكاليف التنفيذ، لكنّ المشروع تأخّر بسبب نقص التمويل. وخلال الأيّام الماضية، جرت مُحاولات لتجاوز كل التفاهمات السابقة عن طريق الإستقواء، وتمّ تحديدًا السعي لنقل البركة من منطقة تُسمّى "وادي الدبّة" إلى منطقة أخرى تُسمّى "حقل سمارة" ترتفع عن سطح البحر بنحو 2700 متر، ومُتنازع عليها عقاريًا أيضًا بين بلدتيّ بشرّي وبقاعصفرين، الأمر الذي أثار إعتراضات واسعة، وقد لجأت بلديّة بشرّي وفعاليّات المنطقة إلى القضاء لمُعالجة الموضوع وحصره بالمسائل العقاريّة، حيث إدّعت البلديّة بوجه وزارة الزراعة–المشروع الأخضر وبوجه بلديّة بقاعصفرين، وقد صدر قرار تمهيدي عن قاضي الأمور المُستعجلة في بشرّي، جو خليل، قضى بوقف أعمال إنشاء بركة المياه في "سهلة سمارة" المُتاخمة للقرنة السوداء. إلى ذلك، إستندت بلديّة بشرّي في إعتراضها على قرار قانوني آخر، صادر عن كل من وزارتي الطاقة والبيئة، وينصّ على منع إقامة أي مُنشآت أو تنفيذ أي أعمال حفر في أي منطقة يزيد إرتفاعها عن 2400 متر، إلا بإذن خاص وبعد دراسة من وزارة البيئة، وهو ما لم تحصل عليه أصلاً الجهة التي سعت لإنشاء بركة في "جبل المكمل–القرنة السوداء" المُصنّف من المواقع الطبيعيّة. وفي هذا السياق، لا بُدّ من التذكير أنّ وزارة البيئة كانت قد أصدرت في العام 1998، يوم كان أكرم شهيّب وزيرًا للبيئة، قرارًا حمل الرقم 187/1 منعت بموجبه أي أعمال في القرنة السوداء، إن على سطح الأرض أو في جوفها.
وعلى الرغم من كل هذه الوقائع التي تستوجب أقلّه تجميد أي مشروع، في إنتظار أن يقول القضاء كلمته النهائية، دخل أكثر من نائب ومن شخصيّة سياسيّة على خط الأزمة، وجرى تحويلها من نزاع عقاري بين منطقتين إلى خلاف طائفي ومذهبي، حيث تمّ صبّ زيت طائفي بين بشرّي والضنيّة لغايات سياسيّة، مع إستغلال واضح لحماس بعض الشُبّان ولإندفاعهم الغرائزي دفاعًا عن "منطقتهم". وفي هذا السياق، تحرّك منذ بضعة أيّام موكب يضمّ نحو مئة سيارة دفع رباعي إلى القرنة السوداء وهي تحمل لافتات كتب عليها "القرنة السوداء ضنّاوية"، في الوقت الذي تحدث فيه المُشاركون في الموكب عن تعرّضهم لإطلاق نار مجهول المصدر! وفي الوقت الذي كانت فيه مواقع التواصل الإجتماعي تشهد تبادلاً للإتهامات وللتهجّمات بشأن هذا الخلاف، مع رمي إشاعات بخلفيّة طائفيّة مُغرضة، مثل النيّة في نزع الصلبان على القِمم في المنطقة، إتّخذت وحدات الجيش اللبناني مجموعة من الإجراءات الإحترازيّة، لمنع أي إحتكاك. لكنّ إجراءات الجيش لا تكفي، حيث المطلوب أن تُواكب بمساع سياسيّة للتهدئة، لا سيّما لجهة المُسارعة إلى وقف كل الأعمال الإستفزازيّة، ومنها ما يتردّد عن نيّة بعض عشائر منطقة الضنيّة وعرب العجارفة(1) التجمّع صباح كل يوم جمعة في ساحة مسجد عمر بن الخطاب، والإنطلاق بالسيارات إلى القرنة السوداء لإقامة الصلاة هناك، علمًا أنّ قيادة الجيش لفتت في بيان لها أمس إلى أنّها ستقوم يومي الخميس والجمعة المُقبلين بتنفيذ تمارين ومناورات تدريبيّة بالذخيرة الحيّة في منطقة القرنة السوداء، وطلبت من المواطنين عدم الإقتراب من بقعة التمارين.
إشارة إلى أنّ العديد من الشخصيّات السياسيّة السنيّة المُصنّفة كخُصوم "تيّار المُستقبل" في الضنيّة، تقود تحرّكات وضع اليد على المنطقة المُتنازع عليها في القرنة السوداء، لتعزيز واقعها الشعبي ولتسجيل نقاط سياسيّة على "التيّار الأزرق" المُحرج، والذي لا يريد مُفاقمة الحالة المذهبيّة في المنطقة عبر تبنّي خطوات تتجاوز القضاء، لكنّه يخشى من جهة أخرى أن ينجح خُصومه في إظهاره كفريق سياسي ضعيف وغير قادر عن الدفاع عن بيئته! وبالنسبة إلى حزب "القوّات اللبنانيّة" فهو من جهة لا يريد الإصطدام لا بتيّار المُستقبل ولا بسواه من القوى السياسيّة السنيّة في المنطقة، وفي الوقت عينه لا يريد التعامل بأي ضُعف إزاء الأزمة، حتى لا يستغلّها خُصومه، خاصة في ظلّ الحملات السياسيّة المُمنهجة التي يتعرّض لها بسبب خلافاته السياسيّة مع أكثر من فريق ضمن طائفته وعلى المُستوى الوطني!.
في الختام، المَطلوب أن يأتي الحلّ من جانب السُلطة السياسيّة الرسميّة التي عليها حماية كل أبنائها، ومنع تعديّات أي منهم على الآخر، وتطبيق كل القرارات القضائيّة بحذافيرها. والأكيد أنّ التراخي في هكذا مواضيع حسّاسة يُمكن أن يُؤدّي إلى مشاكل خطيرة، لبنان في غنى عنها تمامًا.
ناجي س. البستاني