إشتدّت الأزمة الإقتصاديّة في لبنان، وجرى التلاعب بسعر صرف الدولار صعوداً، فتظهّرت ثلاثة مستويات من الأسعار: ثبات في تحديد سعر الصرف في مصرف لبنان، إرتفاع بسيط في البنوك، وتفلّت بشكل عشوائي في محلات الصيرفة وصل الى حد كبير. إرتفع صراخ أصحاب المؤسسات الصغيرة ومحدودي الدخل، الذين يقبضون او يجنون اموالهم بالليرة اللبنانية ويضطرون للدفع بالدولار، ومن بينهم الافران، واصحاب محطّات المحروقات، وشركات قطع السيارات، والإلكترونيّات، والمعدّات الكهربائية، وغيرها من القطاعات التي تدخل في يوميات المواطنين. لا ذنب للتجّار ولا لأصحاب المهن الذين يستوردون المواد بالدولار الأميركي، فيضطرون الى دفع فروقات تتراكم عليهم.
واذا كان اللبنانيون يتساءلون عن أسباب الازمة الإقتصاديّة، ويرون في العقوبات الأميركيّة سبباً رئيسياً لأنها جفّفت من المصادر الماليّة الخارجيّة، فإنّ قوى سياسية حاولت إيهام اللبنانيين بأنّ سوريا هي المسؤولة عن أزمة فقدان العملات الأجنبيّة من لبنان.
فكيف تكون دمشق هي المسؤولة في حال كانت تستورد مواد متنوعة من بيروت وتدفع اثمانها بالدولار الأميركي؟ وكيف يكون السوريّون مسؤولين عن فقدان الدولار من الأسواق اللبنانيّة وهم الذين يدفعون بالدولار لقاء الخدمات التي تقدّم لهم في لبنان، ومشترياتهم اليومية والترانزيت والسياحة؟! انه تجنٍّ سياسي غير واقعي يرمي فيه لبنانيون الاتهامات على السوريين للهروب من أزمة لبنانيّة حصلت جراء تجفيف مصادر الدولار، والحصار غير المباشر المفروض على لبنانيين تحت إسم عقوبات ماليّة، وما حصل مع "جمّال ترست بنك" هو دليل واقعي تخشى مصارف اخرى من أن يتكرّر بحقّها. علما أنّ اللبنانيين يبغون تحقيق النتائج الإقتصادّية التي حقّقتها سوريا: سبق وأعلنت وسائل إعلاميّة عن إجراءات سوريّة عقابيّة بحق إقتصاديين سوريين أثرياء، لا صحة كاملة لها، وبدا أنّ الانباء بشأنها مبالغ فيها، لكن دمشق قامت فعلاً بإجراءات عقابيّة وفرضت صمود الليرة امام الدولار بعد الحملة التي تعرض لها مصرف سوريا المركزي لضرب الليرة السورية. لكن حاكم المصرف السوري حازم قرفول يتمتّع بديناميّة لافتة إستطاع أن يحدّ من تفلّت سعر الصرف السوري، ويضبط الإرتفاع العشوائي. بينما كان إقتصاديون سوريون يستكملون خطواتهم في تأسيس مصانع، وتكثيف النشاط التجاري لإعادة سوريا الى خريطة الدول المستقرّة إقتصادياً، من خلال تشغيل اليد العاملة وإنشاء معامل ذات ابعاد إقتصاديّة إستراتيجيّة، وترسيخ مفهوم الإكتفاء الذاتي السوري.
كان يراد لسوريا ان تنكسر إقتصاديًّا بعد فشل الحرب العسكريّة ضدّها، والمعارك السياسية والضغوط الدبلوماسية، لكن دمشق تجاوزت المرحلة الأصعب، لتأتي الآن إجراءات سوريّة ماليّة وإقتصاديّة تضبط الفساد والهدر الذي تسلّل في سنوات الحرب الماضية، معطوفة على تدخّل المصرف المركزي ومدعومة بخطوات إقتصاديين وطنيين، تلتقي جميعها عند هدف واحد: إعادة دور سوريا الإقتصادي الى نشاطه الطبيعي. وبما انّ الإقتصاد السوري هو نظام إنتاجي وليس ريعياً كما الحال في لبنان، فإنّ دمشق قادرة على إستيعاب الصدمات والضربات. بينما يتقهقر اللبنانيون بسبب طبيعة نظامهم الإقتصادي الريعي الذي تعززه الفوائد المصرفيّة المرتفعة حالياً، ويحاول بعض سياسييهم ان يرمي المسؤولية على سوريا.
فهل يمكن للبنان ان يعيد انتاج نظام تأسيسي زراعيا وصناعيا، كما حال السوريين الذين ينتجون الكهرباء ويزودون لبنان من الفائض منها؟ لا يمكن الإعتماد فقط على الخدمات بعد تعدد الخيارات السياحية الإقليميّة غير المكلفة من اليونان الى تركيا ومصر. كلها تأتي على حساب لبنان، خصوصا أنّ اللبنانيين يدفعون العملات الصعبة خلال زياراتهم المتكررة لتلك الدول، فيساهمون في فقدان العملات الصعبة من لبنان، عدا عن ارسال مئات ملايين الدولارات شهريا الى خارج البلد بدل أجرة المساعدين الاجانب في المنازل، وخصوصا الى الفليبين وإثيوبيا وبنغلادش ودول افريقيّة وآسيويّة أخرى. كل ذلك، لا يخفي حقيقة أن اهم خروج للعملات الصعبة حصل من قبل اثرياء وسياسيين نقلوا سابقا اموالهم الى بنوك سويسريّة واميركيّة.