ثمّة اقتناع واضح لدى مختلف الأجهزة الأمنية، وكذلك الأوساط الدولية المراقبة، بعدم وجود بصمات خارجية أو «مؤامرتية» في تحريك الدولار، وما تلا ذلك من إضرابات وتظاهرات في الأساس فإنّ هذه التظاهرات لم تكن متناسبة مع حجمٍ ناتجٍ من أصابع تحريك خارجية. كما أنّ الضغط الذي شهدته الأسواق اللبنانية حيال العملة الأميركية له أسبابه الداخلية الواضحة ولا يدخل أبداً في اطار وجود مؤامرة خارجية، وإلّا لو كان ذلك صحيحاً بأنّ هنالك جهة ما تسعى لهزّ الاستقرار الداخلي، كان يكفي مثلاً إصدار تصنيف جديد أكثر تخفيضاً للبنان من قبل المؤسسات الدولية المعنية، أو حتى إصدار قرار ما على المستوى الدولي يؤدي إلى الغاية المطلوبة خلال ساعات معدودة، بل أكثر، فإنّ العواصم الأجنبية تابعت ما حصل في لبنان بأدنى درجة من الاهتمام، ربما بسبب انشغالها بالتطورات الهائلة الحاصلة في المنطقة.
في الواقع يجب الاعتراف بحجم الأزمة والاهتراء في مؤسسات الدولة، والأهم الهوّة السحيقة التي تفصل بين المواطنين والطبقة السياسية الحاكمة.
ربما ما يطمئن بعدم وجود جهة خارجية تتولى إثارة الفتنة أنّ ما حصل لا يحمل بذور الخطة التصاعدية ولا الادوات المطلوبة لهزّ الاستقرار بناءً على خطة موضوعة. ولم تجد أجهزة التحقيق التي تولّت تحديد هويّة كلّ شخص شارك في التظاهرات تقريباً، أيّ معطيات مقلقة في هذا الاتجاه. لكن الواضح أنّ ثمّة طلاقاً حاصلاً ما بين جزء كبير من الناس والسلطة اللبنانية، ما يستوجب العمل على ترميم المأزق الكبير الحاصل واعادة جسور التواصل بدل رمي التهم يميناً ويساراً والبحث عن كبش فداء.
وكان كلام البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي واضحاً في هذا الشأن حيال حاكم مصرف لبنان وقائد الجيش. وهو موقف قوي لبكركي وجديد من نوعه، ومضامينه تحمل أبعاداً كثيرة. في الواقع شتان ما بين تعامل الشارع وتفاعله مع أحداث نهاية الاسبوع الماضي واظهار نقمته على الطبقة السياسية وما بين الحملات التي تعرض لها الجيش اللبناني، خصوصاً عند حجب الطعام عنه لمدة 3 ايام، والتي أظهرت تعاطفاً شعبياً واسعاً معه. فليس تفصيلاً أن أحد المواطنين فور اذاعة خبر حجب الطعام عن الجيش، يندفع في اتجاه أحد الأفران في منطقة عوكر شارياً مئتي «منقوشة» ليرسلها الى أقرب مركز للجيش.
إنه فلس الارملة، وهو يعكس خطوة فيها الكثير من العبر.
كذلك ارسل أحدهم من البقاع شاحنتين مليئتين بالخضار والفاكهة وقدمها لقيادة الجيش. وثالث يتصل بالقيادة وهو لا يعرف أحداً عارضاً استعداده للتبرع بشيك يصل الى عشرة ملايين دولار. ورابع مقيم خارج لبنان يضع نفسه وامكاناته المادية في تصرف الجيش. وهنالك خامس وسادس و.... وفي ذلك طريقة تعامل مختلفة بالكامل من المواطنين مع الطبقة الحاكمة، وأخرى مع الجيش اللبناني. ففي الاولى ثقة مفقودة ورائحة فساد ومصالح شخصية وسعي للإمساك بالسلطة، فيما طريقة تعامل الناس مع الجيش أكثر نقاوة وثقة.
وربما لهذا السبب تعرض الجيش لعدد من الكمائن خلال الاشهر الماضية بدءاً من «التقنين» المالي القاسي على افراد الجيش وغير المفهوم او المبرر حسابياً، فيما صناديق الهدر وموازنات المشاريع ومصاريف الايجارات الهائلة بقيت موجودة وملحوظة في موازنة مفترض ان تكون تقشفية اي موازنة طوارئ.
لم يكن مفهوماً كيف يجري «عصر» الموازنة على الجيش لتوفير مبالغ صغيرة، فيما تترك موازنات ضخمة لمسائل يمكن الاستغناء عنها مؤقتا وتترك مداخيل مرافق مهمة مثل مرفأ بيروت وحولها الكثير من علامات الاستفهام والتعجب.
ومن المسائل غير المفهومة الذهاب الى شراء زوارق حربية من فرنسا بقرض فرنسي يبلغ حوالى 400 مليون دولار، وهذه الزوارق يجب ان يواكبها بناء أحواض خاصة بها وتأمين مستلزماتها وفرز مئات المتخصصين وتدريبهم. وهو يستوجب تكلفة عالية على لبنان، فيما جرى عصر النفقات ووقف التطويع ومسائل أكثر اهمية والحاحاً، لتثبيت الامن في لبنان. فالموازنة الجديدة فرضت على الجيش اختصار الطلعات الجوية الى النصف لتوفير قطع الغيار، وهو ما سيؤدي حكماً الى تراجع مستوى الرقابة الامنية وانتاجية العمل. ووقف التطويع لثلاث سنوات سيؤدي الى ان يصبح الجيش هرماً، كون الوحدات القتالية بحاجة لإدخال آلاف الشبان كل عام. ما يعني انه لا يمكن فهم المسألة في اطار سياسة التقشف، بقدر ما هي سياسة الاستهداف.
فالمعروف ان قائد الجيش العماد جوزف عون منع ايّ تدخل سياسي في المؤسسة، وبالتالي لم يعد هنالك من زبائنية سياسية في التعيينات العسكرية. وهذا مزعج للطبقة السياسية.
وكذلك ان تحظى المؤسسة العسكرية بهذا القدر من الاحترام الخارجي، ولاسيّما الاميركي، فهي مسألة حسّاسة للكثير من المسؤولين. رغم ان قائد الجيش خلال زياراته الاربع للولايات المتحدة الاميركية لم يبحث أو يتطرق أو حتى يلمّح الى ايّ مسألة تتجاوز نطاق مهمة الجيش العسكرية ومتطلباته.
حتى في زيارته الاخيرة، والتي سبقها الكثير من اللغط في لبنان حول استحقاق رئاسة الجمهورية المقبل، فإنّ الكلام لم يخرج للحظة خارج الاطار العسكري البحت، وهو ما كشفته مصادر ديبلوماسية اميركية معنية، وأضافت أنّ هذا ما زاد احترام المسؤولين الاميركيين لقائد الجيش. ومع التسريب المقصود لصورة قائد الجيش مع العميل عامر فاخوري، كان واضحاً أنّ ثمّة اصراراً على استهداف العماد جوزف عون. فتولى أحد الاشخاص المعروفين مهمة الاصرار لكي يجري توزيع الصورة. الجهة الفعلية كانت معروفة، بل انّ التحقيق في مصدر توزيع البرقية المزوّرة حيال الفاخوري جرى تتبّعه ليتبين انه مخيم عين الحلوة. طبعاً هذا لا يعني ان جهة فلسطينية هي التي ارادت ذلك من تلقاء نفسها، بل قد يكون أن جهة ما لبنانية طلبت هذه «الخدمة» في اطار تبادل الخدمات. وأنّ الاخطاء الواردة في البرقية المزورة قد تكون مقصودة لتجهيل الفاعل.
بالتأكيد لن يكون ملف الفاخوري هو آخر الاستهدافات في حقّ الجيش، والغالب انه ستكون هنالك فخاخ كثيرة طالما أن اللغة داخل الجيش هي لغة عسكرية صرفة من دون نكهة سياسية، وطالما انه يحظى باحترام الأقربين والأبعدين.
هذا لن يعجب الطبقة السياسية بالتأكيد.