منذ الطائف، والنظام السياسي اللبنانـي لا يُـحكَم بدستوره، بـل بالـمواثيق والأعراف وبتقاسـم السلطة الـمبـنـي على الصيغة الطائفية. فعلى رغم النصّ فـي الدستور على فصل السلطات، إلاّ أنّ التداخل بقيَ قائـماً، وبُنيت صيغة الـحكم على موازيـن القوى الطائفية حسب أحجامـها، وأدّى تقاسـم السلطات إلى تعطيل قواعد النظام البـرلـمانـي، وتـحوّلَ الـحُكْم من حُكْم الرأس الواحد إلى حُكْم «الرؤوس الـمذهبية» أو ما يُسـمّى «فيديرالية الطوائف»، التـي لا يـجمعها أيّ هدف أو رؤية. ه
ذه التـركيبة القائـمة على توازنات دقيقة بيـن زعماء الطوائف، وعلى الـمحاصصة وتقاسـم السلطات، فرضت أن يكون القرار السياسي قراراً جـماعياً لا يعالـج الـمشكلات جذرياً، فأخفقت الطبقة السياسية الـحاكمة فـي إيـجاد الـحلول لـما تعانيه البلاد من أزمات على كل الصّعُد.
لبنان فـي خطر حقيقي، وأبناؤه قلقون وخائفون من الآتـي، ليس فقط بسبب الوضع الإقليـمي الـمتفجّر والسلاح غيـر الشرعي الـمتفلّت، ولا بسبب وضعه الإقتصادي والـمالـي وارتفاع سعر صرف الدولار وازدياد نسبة الفقر والبطالة، ولا بسبب تلوّث مياهه وبـيـئـتـه واهتـراء بـنـيـتـه التـحتيّة .. بل بسبب رعونة زعمائه ومسؤوليه، الذيـن يـحاولون التـملّص من مسؤولياتـهم وتقاذف التّـهم وتـحميل الطرف الآخر المسؤولية عن تردّي الأوضاع الـحياتية والـمعيشية والـمالية وفشل تنفيذ الإصلاحات الـمطلوبة لإنقاذ البلد من الإنـهيار.
فـي الـحقيقة، وضعنا الـحالـي ميؤوس منه، بفضل هذه الطبقة السياسية الفاسدة والفاشلة، وهذه «التـركيبة» الـمتناقضة التـي تـحكم البلاد. إنّـها مـجموعة قبائل جـمعتـها الظروف والأقدار فـي وطن واحد، وأطلقت على إجتـماعها ما يُسـمّى «العيش الـمشتـرك». فكل قبيلة تعتبـر زعيمها وقائدها قديساً أو نصف إله، وهذا الزعيـم لا يُـمكن أن يُـخطئ أو أن يكون فاسداً أو سارقاً أو عميلاً أو مُستـزلـماً أو شعبوياً أو «مصلحجياً»، وحده الـمُنقذ والـمخلِّص الذي يعمل لـمصلحة الوطن.
إن كان مع إيران، فـهو على حقّ، وإن كان مع السعودية، فـهو على حقّ، وإن كان مع سوريا، فـهو على حقّ، وإن كان مع أميـركا، فـهو على حق. أمّا إذا كان مع لبنان، وفقط مع لبنان، فـهو عميل لإسرائيل وللصهيونية العالـمية.
مصائبنا ليست وليدة الأمس، رافقتنا قبل الإستقلال وبعده، وقبل وجود منظمة التـحرير الفلسطينية وبعدها، وقبل الوجود السوري وبعده. فعلى رغم الإزدهار الذي حصل فـي عهد الرئيس كميل شـمعون، إنتـهى عهده بثورة، وعلى رغم الإصلاحات التـي حصلت فـي عهد الرئيس فؤاد شهاب، فقد عارض الكثـيـرون التـجديد له وانتقدوه بسبب رجال «الـمكتب الثانـي».
وعلى رغم التوافق على مـجيء الرئيس ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، فقد انتـهى عهده بالإختلاف على «إعلان بعبدا» وعلى الـحياد عن الصراعات الإقليمية. لـم يُـحسِن زعماؤنا بناء دولة لأنـّهم تلهّوا، كما يـحصل اليوم، فـي الـمحاصصات وفـي تبادل الإتـهامات وتقاذف الـمسؤوليات.
عندما تكون الدولة غيـر قادرة على فرض سلطتـها على ترابـها الوطنـي، وغيـر قادرة على تأميـن حدودها البـرّية ومياهها الإقليمية ومـجالـها الـجويّ، ومعابـرها فالتة لكل أنواع التـهريب، ووجود ميليشيات وقوى مسلّحة خارج الشرعية تسيطر على قرارها، وشعبها منقسم مـجتمعياً ومناطقياً وطائفياً ومذهبياً، والفساد يـنخر مسؤوليها وأجهزتـها ومؤسّساتـها، وتكثـر السرقات والسمسرات والـمحاصصات، والقضاء معطّل والـمحاسبة مفقودة، والأغراب على أرضها يشكّلون نصف عدد سكانـها، ويتنامى الفقر والبطالة والـهجرة، ويتدهور الإقتصاد تدهوراً حاداً، وتنهار قيمة النقد الوطنـي، وتفقد الناس ثقتـها بالدولة ومؤسّساتـها التـي تعجز عن تأميـن أبسط مقوّمات الـحياة والعيش الكريـم.. عندها، لا يـجوز الكلام إلاّ عن دولة فاشلة وحكومة فاشلة ونظام فاشل، وليس عن عهد قويّ ودولة مكتملة الـمواصفات. ولا يُـمكن لأيّ عهد، مهما كثـر عدد مؤيّديه وأتباعه أن يكون قويّاً وناجحاً من دون حكومة متماسِكة ومتضامِنة وفاعِلة.
يقول أدولف هتلر: «عندما تقود الـحكومة الشعب إلى الـخراب بشتّـى الوسائل والإمكانات، يصبح عصيان كل فرد من أفراد الشعب حقاً من حقوقه، بل واجباً وطنياً».