لم يكن غريباً مشهد الإحتجاج الشعبي الذي أطلّ خجولاً في الأيام الماضية في بعض المناطق اللبنانية. توحي الدعوات بإستمرار التظاهرات. حجم الأنين على صفحات التواصل الإجتماعي يؤكد وجود سخط شعبي لا محدود، لكن الواقع السياسي والطائفي يفرض الكسل الشعبي لعدم وجود جدوى من إحتجاجات غير معروفة البوصلة، ولا مضمونة الأهداف. قد يعتبر أحدهم أن اللبنانيين يخشون من تكرار تجارب الشعوب العربية في تحقيق فوضى "الربيع العربي". لكن العارف من بينهم يثق أن أكبر سبب لفشل أي ثورة شعبية او إجتماعية في لبنان هو النظام الطائفي الذي يحمي كل المنظومة السياسية ويمنع المسّ بها. ومن هنا يُجمع السياسيون أنفسهم في البلد على أن الإحتجاجات ستكون مضبوطة تحت سقف المنظومة القائمة، مهما علا شأن التظاهرات وكثرت أعداد المحتجّين.
رغم ذلك، كان لافتاً مشهد طرابلس التي خرجت في شوارعها تظاهرات ترفع شعار حرمان المدينة. يستحق المشهد التوقف عنده. فهي حتماً تعيش الفقر والعوز التي يتوارثها الأجيال في بعض أحياء عاصمة الشمال. هم لبنانيون طيّبون، مضحّون، لا يبتغون غير الحياة الكريمة المتواضعة. وإذا كانت كل المنظومة السياسية تتحمل مسؤولية عدم وضع خارطة طريق إنمائية لرفع الحرمان عنهم، وعن غيرهم في عكار والبقاع الشمالي، فإن مبادرات بالمفرّق لن تحل ازماتهم المعيشية، مهما علا شأن الزعيم أو كان حجم ثروته المالية. الدولة هي المسؤولة، والحكومة هي المعنية بتنفيذ سياسة إقتصادية. الناس تعلم ذلك، لكن المواطنين يريدون عصفوراً في يدهم الآن، لا عشرة على الشجرة. فلماذا قصّرت الحكومات جميعها منذ الطائف حتى اليوم بحق طرابلس وكل الشمال؟.
اللافت أنّ الدولة غابت، فحضرت قوى سياسية إستغلّت حالة الفقر في أحياء طرابلسية، وقدّمت للمواطنين سابقاً إغراءات ماديّة متواضعة مشروطة أحياناً بحمل السلاح وشحن الناس طائفياً ومذهبياً لزجّهم في معارك سياسية قبض أثمانها الكبار، وقدّموا الصغار ضحايا في معارك الزواريب والمحاور الوهمية. إكتشف الأهالي لاحقاً أنهم كانوا ضحايا أكذوبة تخدم مصالح سياسية. إسألوا "زعماء المحاور" ومقاتلي المجموعات: من زجّ بهم في أتون الصراعات المذهبية؟ من شجّعهم للقتال في سوريا؟ من إستخدمهم؟ من تخلّى عنهم؟.
سبق وأن جرى تجييش الشارع ايضاً ضد حكومة رئيس مجلس الوزراء السابق نجيب ميقاتي بحجة أنها "حكومة حزب الله". ضجّت يومها طرابلس ومناطق أخرى بالشعارت وإزداد الشحن المذهبي والطائفي والمناطقي، وجرى تقطيع أوصال الفيحاء. لكن ماذا جرى بعدها؟ أظهرت الوقائع ميقاتي أنه متطرف سياسي لصالح طرابلس، ومنحاز الى "مصالح السنّية السياسية" أكثر من غيره، فلم يتنازل أمام أي قوى أخرى، ولم يخش السخط السياسي من قبل "حلف الممانعة" ضده. منذ ذلك الحين، لم يعد المرشح المطلوب لرئاسة أي حكومة. يفضّل الحلف المذكور رئيس الحكومة سعد الحريري رئيساً لمجلس الوزراء، رغم وجود أسماء أخرى قادرة ايضاً مطروحة، وتوحي بالثقة الداخلية والإقليمية، وقادرة على تولي المهمة من بينها ميقاتي و النائبان فؤاد مخزومي وعبدالرحيم مراد وآخرون.
جاءت الأزمة الإقتصادية الأخيرة، تحمل طرابلسيين على رفع الأصوات في إحتجاجات يُفترض أن تكون ضد الحكومة. مما يعني منطقياً أن يكون رئيس الحكومة الحالي في الواجهة، أو التيار الأزرق الذي يتزعّمه. لكن المفاجأة ان الشعارات تركّزت ضد ميقاتي وليس ضد "المستقبل" الذي يتصدر صفوف السلطة الحالية. مما حمل ميقاتي الى القول سريعاً: "واهم من يعتقد أن تحركات مفتعلة معروف من ينفّذها بواسطة الأجهزة يمكنها التغطية على التعدّي على الدستور والفضائح وسوء الآداء على كل المستويات".
اذا كان التحرك بنظر المحتجّين طبيعياً إستناداً إلى وضع البلد، فإن قوّة موقف رئيس "العزم" تكمن في توصيف وجهة التحرك ونوعية الشعارات التي رُفعت امام منزل ميقاتي الذي لا يرئس حكومة الآن، ولا يملك القرار لا السياسي ولا الإقتصادي. مما يؤكد ان الحراك جرى تحريف مساره ليوجّه ضده، أو على الأقل هناك من يستغل وجع الناس لتوظيف التظاهرات في تأليب الطرابلسيين على "العزم".
اذاً، هي معركة تصفية حسابات جديدة وقودها المواطن البريء. لكن لا ذنب للاهالي في لعبة الكبار، فمحطة الإستغلال تتكرّر شعبياً سلمياً إنطلاقا من واقع إقتصادي صعب يحاكي مخاوف المواطنين.
من هم المخطّطون في لعبة تصفية الحسابات الطرابلسية؟.
لم يسمهم "العزم"، ولم يسرّب المقرّبون من ميقاتي أي اتهام مباشر، لكن عند قراءة مضمون الخطاب السياسي للتيار المذكور يمكن الإستخلاص أن معركة ميقاتي هي مع قوى سياسية وأجهزة أمنية باتت قلقة من تمدّد رئيس "العزم" المقاتل الشرس دفاعاً عن "الطائف" وصلاحيات رئاسة الحكومة، وقد يسبّب حراكه ودفاعه إحراجاً لتيار "المستقبل". يستحضر الرجل عناوين الصلاحيات والدستور وحماية الطائف، للقول إن معركته السياسية هي أوسع من حدود السباق السياسي القائم على مساحة إسلامية او سنّية. وهو ما برهنه خلال نشاطات رؤساء الحكومات السابقين. فإلى أين يصل الكباش هذه المرّة؟ وهل ستشهد طرابلس محطّات أخرى؟ قد تكون مجريات إنتخابات المجلس الشرعي المرتقبة الأحد المقبل مؤشراً بعد الإنفصال الذي فرضته التظاهرات الأخيرة بين "العزم" و "المستقبل". ما هي خطة ميقاتي للدفاع عن موقفه؟ كلها اسئلة ووقائع يرصدها الشماليون، لكن ابرز اجوبتها ينطلق حُكماً من قواعد تنفيذية في ترجمة الحد الأدنى من الإلتزام بمتطلبات الناس. المواطن دوماً على حق.