"بيروت أمّ الشرائع"، إنه أوّل شعار علّمتنا إيّاه المدرسة عن "بيروت" في كتاب قراءة باللغة العربيّة حملناه على اكتافنا في "شنطة" مثقلة بالكتب تكسر الظهر (قبل استيراد لبنان لشنط الدواليب).
نذكر ذاك الشعور بالفخر كلّما تحدثنا أن بيروت علّمت العالم الشرائع ومنذ عهد الرومان.
اليوم، أين بيروت من الشرائع؟.
صحيحٌ أنّ عالم "الحقوق" اللبناني غنيٌّ فعلاً باجتهادات محاكم نموذجية وكتب ودراسات وأبحاث وأطروحات تضيف إلى مدماك العلم والعدالة الكثير. ولكن، في زمننا، فقدت "بيروت" أمومتها للشرائع الحديثة.
نقولها بكلّ أسف ونحن نكتب هذه المقالة من قصر عدل جبل لبنان حيث يقف المحامون في أروقة ضيّقة أمام مكاتب قضاة التحقيق بانتظار جلساتهم. أروقة لا مكيّفات فيها والمقاعد عدد أصابع اليد.
هنا يقف المحامون والمدّعون والمدعى عليهم واهالي الموقوفين والموظفين الذين يتنقلون من مكتب لآخر وعناصر القوى الأمنية. هنا حيث المراحيض تُقفل أبوابها بالمفاتيح والنظافة معدومة، هنا حيث يأتي أصحاب الحقوق والمغبونون من اللبنانيين وغير اللبنانيين. هنا حيث المصاعد معطّلة والكهرباء انقطعت كثيرا. هنا حيث كلّ شيء يثبت أن لبنان يغرق في "العناوين". فهذا ليس قصراً.
بالعودة الى التشريعات، التطور العالمي التكنولوجي كما العولمة الاقتصادية كما تعدد أنواع واساليب واشخاص الجريمة فرض على الدول سنّ تشريعات "مبتكرة".
نعم التشريع ابتكار. التكنولوجيا، الاسلحة، البيئة، التجارة، العقارات، الشركات، المصارف، النقد والتسليف، أصول المحاكمات، العقوبات، السجون، النفط والغاز، الاستثمارات، الفضاء، الانتخاب الخ... وحتى الدستور.
أين تشريعاتنا الحديثة منها مقارنة مع الدول المتقدمة؟ طُرحت منذ بضعة ايام قضية إصدار "العملة الرقميّة" بالليرة اللبنانية. وهل في لبنان تشريع يتناول"العملة الرقمية"؟. كتبنا في هذا الموضوع ملاحظة ربما تستحق البحث جاء فيها: "في عالم الأموال، العولمةالمالية "فرضت" التعامل بنوع حديث من الابتكارات التكنولوجية وهو العملة الرقمية. إنّها لوغو يتم تداوله اونلاين وكأنّه عملة فعلية ولكنه عملة افتراضية. يخضع سعر العملة الرقميّة لسوق العرض والطلب، فبعض قطاعات التجارات السيبرانية تستخدمها حصراً ولها بورصات تحركها سرّاً. ونشير أنّ بعض الدول أصدرت تشريعات حظّرت التعامل ببعض العملات الرقميّة مثلا الصين منعت "البيتكوين" وكذلك "لبنان".
قيل في لبنان: قريبا ستصدر عملة رقمية بالليرة اللبنانية. برأيي كلاّ وتمهّلوا. قبل الحسم، هذا يحتاج درساً جدّياً:
١-العملة الرقمية لا يجب أن تُتداول بالعملة الوطنية وذلك حماية للاخيرة .
٢-لبنان بلد لا تشريعات حديثة فيه لقطاع التكنولوجيا كما لا تشريعات حديثة تعزز من حماية الأمن النقدي .
٣-معظم العملات الرقميّة العالمية صدرت بصورة مافياوية سريّة وتم التداول بها بالدولار. بقي اصل بعضها مجهولا إلى أن تبيّن أن مصدرها بعض الدول في اسيا.
لائحة الأسباب تطول، ولكن؛ العملات الرقميّة عالم ليس فقط مالي بل أيضاً سياسي دولي .
فانتبهوا جيدا وايضا في الميدان الجزائي، ماذا عن العقوبات البديلة؟ وأصول التحقيقات والاستجوابات والمحاكمات؟.
بالمحصّلة، قدّم مؤتمر "سيدر" أموالا طائلة لتحسين وإصلاح "البنى التحتية". هذا ربما جيّد. ولكن، قصور العدل وتأهيلها ومكننتها وإعادة هيكلية إدارتها أفضل مليون مرة من بناء طريق.
سنّ تشريعات حديثة متطورة عادلة أفضل مليون مرة من "شمّاعة" محاربة الفساد بأدوات بالية. لا حاجة لانتخابات نيابية في ظلّ قوانين صادمة تفرز الناس مناطقيا وطوائفيا.
نعم، خرج لبنان من حروب وأزمات وهذا يفرض "بناء الدولة"، أعمدتها سلطاتها. ليس هكذا يُكافأ القضاء اللبناني ولا هكذا تُكافأ المحاماة اللبنانية، وليس كذلك يُكرّم موظف العدلية وليس هذا ما يستحقه المواطن اللبناني.
أبنوا قصور عدل محترمة لائقة متطورة، وابتكروا تشريعات متقدمة منافسة تسمح للمحاكم بالحكم بالعدل.
بناء الدولة يبدأ في العدلية. والا توقفوا عن طلب "العدالة" وطالبوا بـ"الزفت".