وصل الامر بالرئيس الاميركي دونالد ترامب الى حدّ انه نسف كل ما قام به اسلافه، والقرارات التي اتخذوها، والمفاهيم السياسية التي عملوا لعقود طويلة على ارسائها. ولكن، من يتابع مواقفه، لا يتعجب من وصوله الى هذا المستوى ولو ان الامر لم يأخذ وقتاً طويلاً لوضع بصماته عليه، فهو لم ينهِ بعد ولايته الرئاسية، وتمكن من القضاء على ابرز المفاهيم التي روّجت وتروّج لها الولايات المتحدة الاميركية.
الموقف الاخير-العجيب الذي اطلقه ترامب، يقضي بأنه لم يكن على اميركا ان تتواجد في الشرق الاوسط، وهو امر يبعث على الفرح والسرور للكثير من شعوب المنطقة، نظراً الى الآثار السلبية التي تركتها سياسات واشنطن منذ سنوات، والتي لاحقتها حتى يومنا هذا. ما يصدم في هذا الموقف، هو ان ترامب نفسه طالب مراراً وتكراراً العرب، وفي مقدمهم السعودية، دفع الاموال مقابل تأمين الحماية الاميركية (وهو ايضاً ما طلبه من اوروبا)، كما انه تفاخر بالقضاء على "داعش" وبأنه هو صاحب هذا الانجاز الذي لم يكن ليحصل لولا وجوده في البيت الابيض. اضافة الى ذلك، يعلن الرئيس الاميركي بشكل مستمر ان الوجود الاميركي في منطقة الشرق الاوسط حيوي للمصالح الاميركية، وابدى استعداده للدفاع عن السعودية في اي حرب تشنّ عليها، ناهيك عن رغبته في عدم التفريط بالعائدات النفطية وباتفاقات شراء الاسلحة من المصانع الاميركية التي تصل كلفتها الى مليارات الدولارات.
واذا كان المقصود من كلام الرئيس الأميركي، عدم التواجد العسكري في الشرق الاوسط، فهذ يعني انه نسف مفهوم السياسة الاميركية في المنطقة بتاريخها الحديث اي منذ ايام وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، ولكانت الساحة خلت في حينه للاتحاد السوفياتي وحده ليصول ويجول في المنطقة كما يشاء، اضافة الى ان النفوذ الاميركي كان ليبلغ الصفر طالما ان التواجد العسكري مفقود، وهو ركيزة اساسية لاي سلطة لدولة غربية، ولمن لا يرغب في العودة الى الاحداث التاريخية، ما عليه سوى استعادة مشهد الدعم العسكري للسلطة في سوريا، والعملية العسكرية التركية حالياً في هذه الدولة، وتأثير القوات الايرانية وعناصر حزب الله، ليدرك ما يستطيع الوجود العسكري ان يفعله.
وفي حال كان اعتماد الرئيس الاميركي على السلاح الاقتصادي، الذي يعتبر انه السلاح النووي في وقتنا هذا، تبقى نظريته ناقصة، لانه في وقت لا يختلف فيه اثنان على قساوة تأثير العقوبات الاقتصادية، لا بد من مواكبتها ميدانياً بسلطة عسكريّة قادرة على الاستفادة من جدوى السلاح الاقتصادي لضبط الامور ومنعها من الخروج عن مسار تمّ رسمه، والا يصبح كل ما قد حققته الورقة الاقتصادية في مهبّ الريح.
لا شك ان الاميركيين يقفون صفاً واحداً خلف كل من يضمن عدم دخول اولادهم في حروب خارج بلادهم، وهذا الامر مثبّت تاريخياً منذ ما قبل التدخل العسكري في فييتنام في سبعينات القرن الفائت، الا انه في المقابل، لا يرغب الاميركيون ان يتضاءل نفوذهم وتقوّض صورتهم كسلطة فاعلة في العالم، وهذا ما يعرفه ترامب اكثر من غيره، بفعل ملف قضية روسيا في الانتخابات الرئاسية وما رافقها من اتهامات ادت الى تأجيج حدة المشاعر المعادية لموسكو وشد العصب القومي الاميركي بشكل غير مسبوق منذ ايام الحرب الباردة.
قد لا يكون للموقف الاخير للرئيس الاميركي اي تأثير عملي ملموس، فقرار سحب القوات الاميركية من منطقة الشرق الاوسط ليس بالسهل او على هذا القدر من الاستخفاف، ولكن مجرد التفكير بهذا الخيار من قبل القائد الاعلى للقوات المسلحة الاميركية، يحمل في طياته ما يكفي لاثارة القلق والخوف لدى السياسيين الاميركيين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، دون ان ننسى مدى تأثيره على المسؤولين العسكريين.