لم يخرج الإقليم من حال الإضطراب السياسي والميداني، فزاده القرار الأميركي بالإنسحاب العسكري ضياعاً، لأنّ هناك من شكّك بمضمون وجدّية الخطوة الأميركية، إستناداً إلى إشارتين:
أولاً، لا تقبل "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة بإستراتيجية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يدعو الى الخروج وعدم المشاركة بأيّ حروب لحماية أيّ حليف شرق أوسطي. ثانياً، لدى الأميركيين قواعد عسكريّة ضخمة وهم يبنون الآن أهم سفارة لهم في لبنان، ممّا يؤكد أنّ المنطقة هي في أول حساباتهم، خصوصا أن الإقليم يحتوي ثروات طبيعية لا يجب التنازل عنها، عدا عن تهديد دول وقوى في المنطقة للوجود الإسرائيلي.
وفي الحالتين: إذا خرج الأميركيون نهائياً سيخسرون كل النفوذ في الإقليم، وإذا كان خروجهم جزئياً فيعني هذا الأمر فرض الشراكة معهم وعدم تفرّدهم بالقرار والإستثمار كما كان يحصل منذ عقود.
ولذا، فَهِمَ حلفاء الولايات المتحدة تلك المعادلة الجديدة، فقرروا الدخول في تسويات تتيح لهم المشاركة في محاصصات النفوذ الإقليمي. لا يعني ذلك نهاية الحروب، بل حصول تحولاّت جدّية قائمة على: أولاً، خسارة الدول الخليجية في حرب اليمن نتيجة عدم تحقيق أهدافها. ثانياً، ثبات ايران في تصدّيها للتهديدات والعقوبات. ثالثاً، إستعداد القوى المتنازعة للدخول في مفاوضات، ولا سيما بين السعودية وايران، الأمر الذي كانت ترفضه الرياض، أو تضع له شروطاً مسبقة. رابعاً، إختلاف الأجندة السعودية عن الرؤية الإماراتية كما أظهرت وقائع حرب جنوب اليمن. خامساً، قدرة سوريا على تجاوز مرحلة المخاطر السياسية والإقتصادية والعسكرية من دون تنازلات جوهرية. سادساً، تعديل انقرة لسياساتها إتجاه سوريا وتخطيها موقف الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عملياً بشأن رئاسة الرئيس السوري بشار الأسد، وقبول الأتراك التنسيق العسكري بين انقره ودمشق، رغم أحداث الشمال السوري الجارية حالياً التي أخبرت فيها القيادة التركيّة القنصلية السوريّة في إسطنبول بقرار الاتراك التقدم عسكرياً في المعركة ضد الكرد. سابعاً، تثبيت روسيا موقعها الوسطي بين كل قوى الإقليم ودخولها طرفاً محايداً لتقريب وجهات النظر، وشبك تحالفات بينها وبين الأتراك والإيرانيين والسعوديين. ثامناً، إنتقال العراق من الإرتباط مع الأميركيين الى موقع يوازي فيه مصالح الإيرانيين والأميركيين في ميزان يطغى فيه دور طهران من خلال النفوذ في الحشد الشعبي بشكل أساسي. تاسعاً، يتحرك الرئيس الباكستاني بين الرياض وطهران بعد تفويض العاصمتين له كي يلعب دوراً توفيقياً لإيجاد تسوية بينهما. عاشراً، تزايد الحديث عن رغبة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الإنشغال بالداخل السعودي إقتصاديا وتطوير وضع المملكة لفرضها بلداً متقدّماً خلال خمس سنوات.
كل تلك الوقائع تشكّل تحولات، لم يكترث لوجودها اللبنانيون حتى الآن. لا زالوا في مرحلة الترقب والإنتظار. هناك قوى لبنانيّة تعتقد انّ الأميركيين لا يزالون قادرين على اللعب بالساحة الداخلية من خلال الإقتصاد، مستندين الى العقوبات. لكن التحولات تسبق اللبنانيين فيدفعون ثمن تأخرهم عن اللحاق بما يجري. فلماذا يستعدّ الخليجيون الى ترتيب الامور مع سوريا، بينما لا تقوم الحكومة اللبنانّية بأيّ خطوة رسميّة متكاملة، على الأقل للطلب من السوريين تخفيض الرسوم الجمركيّة على الشاحنات اللبنانيّة المتوجّهة الى الأردن او العراق ومن خلالهما الى دول اخرى، عبر الأراضي السوريّة.
لم يعد يتحمل الإقتصاد اللبناني الترف السياسي القائم. ولا بد للحكومة ان تتخذ مصلحة اللبنانيين أولوية لا تتجاوزها أولويات.
كما أنّ لبنان يدفع الثمن ضياعاً داخلياً في تحديد التوجهات السياسية، نتيجة الإضطراب الإقليمي الذي يستبق ويوازي المفاوضات. قد يقول أحد المتضررين من تلك التحولات، لا يمكن حسم الاتجاهات حاليا خصوصا ان تنظيم "داعش" يخطّط لتنشيط معاركه بين شرق سوريا ووسط العراق، وعندها ستختلط الحسابات من جديد. لكن هناك من يردّ على ذاك الإفتراض بالقول: مجرّد انتكاسة أيّ تنظيم تعني إندثار قدراته، فلن يقدر على التمكين ولا فرض النفوذ، وكل ما يفعله هو حوادث متنقلة وهجمات إرهابية يائسة لا تغيّر شيئاً في مسار المعادلات الجديدة.