من يتابع تسلسل الاحداث في لبنان، لا يمكنه الا وان يرى آثار وبصمات خطة غير بريئة وغير عفوية، لتغيير الواقع اللبناني، ليس من الناحية الامنية والعسكرية والحمد لله، ولا حتى من الناحية الاقتصاديّة، انما من الناحية السياسية. وفي حين بات الرئيس الاميركي دونالد ترامب يعتمد على السلاح الاقتصادي ويعتبره "سلاحه النووي"، فإنّ الواقع اللبناني غير بعيد عن تداعيات خطورة النتائج المترتّبة على اهتزاز الاقتصاد في بلد يعاني اصلاً من مشاكل عديدة على هذا الصعيد.
من يمكنه ان يصدّق ان لبنان الذي عاش ظروفاً اكثر صعوبة على الصعيد السياسي والامني والاقتصادي في الفترة الاخيرة من العهد السابق والفراغ الحكومي الطويل خلال تواجد تمام سلام في السراي، يعيش حالياً في غرفة العناية الفائقة لـ"بورصة الدولار" والامور الحياتية الاساسية. ليس امرّ من رؤية اللبنانيين يصطفون امام محطّات المحروقات ويقبعون تحت رحمة اصحابها لتعبئة سياراتهم بالوقود، ولا اقسى من مشاهدة المواطنين يعيشون بقلق وترقّب لمعرفة ما اذا سيحصلون على الرغيف لقوتهم اليومي ام لا، ناهيك عن التهديدات المتتالية ان بالنسبة الى الدواء او اعادة شحن هواتفهم الخليوية، او مراقبة سعر صرف الدولار لمعرفة كيف سيتحملون الدفع بالعملة الصعبة لتسيير امورهم.
وعلى الرغم من كل التطمينات التي تعطى من اعلى المسؤولين في الدولة وفي الجسمين المالي والاقتصادي، ومع ان الدولار الاميركي متوافر بكميات كبيرة في الاسواق، يعيش لبنان حالة غير طبيعية ضمن مخطط يقوم على توجيه ضربات متتابعة لدورته الاقتصادية تطال المواطنين في حياتهم اليومية، والوصول الى حافة الانهيار انما دون الوقوع فيه. ومع اتضاح ملامح الخطة، وفي حين من الصعب الجزم بهوية من يديرها (مع ان التداول باسمائهم كثيرانما في غياب الدليل القاطع)، ليس من الصعب التأكيد ان بعض اللبنانيين ضالعون في ما يحصل، هؤلاء الذين باعوا ضمائرهم من اجل حفنة من الدولارات ومن اجل تحقيق كسب سريع سيزول حتماً مع الوقت، فيما ستبقى صورتهم السوداء تطالعهم كلما تطلعوا الى المرآة. في مقابل ذلك، يقبع غالبية اللبنانيين، كعادتهم، يتفرجون ويسيرون على الطريق التي يرسمها لهم البعض، مستخفينبقدرتهم على احداث التغيير التي لا يلزمها الاّ اتفاق في مابينهم على رفض اي مس بحقوقهم الاساسية البعيدة عن السياسة وتعقيداتها، فالطعام والشراب والوقود والدواء والسلامة البيئية وغيرها لا يجب ان تخضع للمزاج السياسي ولا الاقتصادي ولا غيره، انها اقل الحقوق التي يجب الحصول عليها، دون الحاجة الى ثورات واعمال شغب وغيرها من الامور التي تعقّد الاوضاع بدل ان تحسنها. فلماذا لا يعمد اللبنانيون مثلاً الى الاضراب؟ فليضربوا يومين فقط عن تعبئة الوقود، ويومين آخرين عن شراء الخبز، ويومين آخرين عن التعامل بالدولار، هذه امثلة بسيطة قد يعتبرها البعض سخيفة ولكنها صالحة للبحث.
ما من شك ان الهدف الرئيسي لهذه الضربات الحياتية هو الحصول على مكسب سياسي، والمعني في هذا الامر هو رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري. وقد يكون الاول مطالب بثلاثة امور: فك الارتباط بحزب الله وعدم الدفاع عنه دون الحاجة الى مهاجمته او مخاصمته، وتخفيف اللهجة حول موضوع النازحين السوريين، والتخفيف من حجم التعاطي المسيحي للتيار الوطني الحر مع الادارات والمؤسسات في الدولة.
اما الحريري، فقد يكون مطالباً بتصعيد اللهجة ضد الحزب، وباعادة نسج شبكات اتصالاته في الساحة الداخلية خصوصاً مع القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي والتخفيف من التنسيق التام بينه وبين وزير الخارجيّة جبران باسيل.
ويقال انه في حال لم تلبّ هذه المطالب من قبل الاثنين او احدهما، فستستمر الخضات بشكل روتيني، وستطال كافة الاوجه الحياتية للبنانيين، الى ان تتضخم الامور ويصبح من غير المستطاع الاستمرار بها على هذا المنوال، فيضطر عون الى الضغط لاستقالة الحكومة ويدفع الحريري الثمن. ولكن هذه الخطوة ستبقى ناقصة، لان احداً لن يكون بمقدوره تولي مهمة الحريري، الذي سيستمر في تصريف الاعمال الى ما شاء الله، او حتى تطرأ تغييرات جديدة في المنطقة تكون كافية لوقف هذه الخطة واعادة الامور الى نصابها الطبيعي.