اعتبر رئيس الجمهورية ميشال عون خلال المؤتمر الاول للقاء المشرقي أن "انعقاد مؤتمر للقاء مشرقي يجمع في ورشات عمله مفكرين من مختلف مكونات المشرق في لبنان هو جهد مشكور خصوصاً في خضمّ الأخطار الوجودية والكيانية التي تتربص بشعوبنا وأوطاننا"، مشيراً إلى أن "مشرقنا يتعرض لخضات كثيرة، حروب داخلية "ربيعية" مزقت مجتمعاتنا، وحروب إرهابية تدميرية خلفت مئات ألاف الضحايا والمهجرين، وحفرت ذاكرة أجيالنا بصور وحشية لن تمحى بسهولة، وصبت حقدها على معالم تاريخية ودينية وثقافية، وحروب اقتصادية فرملت كل محاولات النمو وأضعفت الانتاج فتلاحقت الأزمات".
ولفت إلى أنه "اسرائيل تسعى لفرض أمر واقع جديد، بدءاً بتهويد القدس، مروراً بسياسة الاستيطان والتشريعات العنصرية، وصولاً الى نقض حرمة الحدود الدولية المعترف بها، وتأييد ضم أراضٍ تم إحتلالها بالقوة كمرتفعات الجولان"، معتبراً أن "كل ما سبق هو تجاوز فاضح لكل القوانين الدولية، وهو أيضاً مؤشّر خطير لما يحضّر".
وأشار إلى أن "الحروب الساخنة انحسرت الى حد ما، ولكن تداعياتها مستمرة، والأخطر هو مخططات استثمار نتائجها، فالمطلوب كما تدل المؤشرات تفتيت المشرق طائفياً ومذهبياً وعرقياً وجغرافياً تمهيداً لإرساء تحالفات على أسس عنصرية، مذهبية وإتنية، تتماشى مع ما يُرسم للمنطقة والذي صار يُعرف باسم "صفقة القرن" ورأى أن "تعميم مفهوم "الإسلاموفوبيا" هو جزء من الحرب في المشرق، ومبدأ التكفير هو الجزء الآخر؛ بهما تضرب الديانتان الكونيتان بعضهما ببعض وتستفيق العنصرية، وتتعاقب أجيال خائفة متعصبة وحاقدة ويصبح الحديث عن صراع الأديان والحضارات حقيقياً وواقعاً"، متسائلا "هل نترك هذه الصراعات تجرفنا أم نتصدّى لها؟".
واضاف الرئيس عون "التاريخ لا يسير الى الوراء، والأحاديات قد سقطت في كل العالم بجميع أشكالها الدينية والعرقية والسياسية لصالح التعددية والتنوّع، فهل يجوز أن تؤخذ مجتمعاتنا في هذا المشرق الى أحاديات مستنسخة من ماضٍ مضى، والى عصبيات ونظم سقطت بغالبيتها منذ آجال بعيدة؟"، متسائلا "هل يمكن أن نسمح بضرب التنوع الطبيعي في المشرق، وهو الذي تقلّبت فيه الأكثريات والأقليات عبر التاريخ ولكنها بقيت ضمن نفس الجغرافيا؟".
وتابع "إنّ دورنا، لا بل رسالتنا، كمشرقيين، أن نطوّر ثقافةً جديدة تدحض كلّ ما يُقال ويُكتب عن صراع الدّيانات والحضارات لأنّ هناك حضارة إنسانيّة واحدة متعدّدة الثّقافات، والمشرق الّذي أعطى الفكر الدّيني للعالم، لا يمكن أن يسمح بتحويله الى مساحة صغيرة معزولة"، مشيراً إلى أن "لبنان الذي يجسد بمجتمعه التعددي وتنوّعه التكويني صورة مصغرة عن تكوين المشرق، فدوره ورسالته أن يبقى أرض تلاقٍ وحوار، ورمزاً للتنوع ونقيضاً للأحادية، ورافضاً لكل أشكال التطرف الفكري والديني".
وأكد "إننا نختلف في السياسة في لبنان، وتعلو الأصوات، وتشتد حرارة السجالات، ولكن أي خلاف بيننا يبقى تحت سقف الاختلاف السياسي ولا يطال الجوهر أبداً؛ لا يطال حرية المعتقد ولا حرية الإيمان أو حق الاختلاف، ولا يطال الوطن، فهذه من الثوابت التي يحترمها الجميع ولا يُمسّ بها"، مشيراً إلى أن "لبنان، وعلى الرغم من مجتمعه المتفاعل والمنفعل أبداً، هو أرضٌ خصبة للتلاقي والحوار، وإيماناً مني بهذه الحقيقة سعيت لإنشاء أكاديمية دولية في لبنان، غايتها مواجهة صراع الحضارات عبر نشر ثقافة السلام، تحت مسمى "أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار".
واعتبر الرئيس عون أن "السلام الحقيقي لا يقوم على الورق بل بين الشعوب. والتعرف على الآخر، على حضارته وديانته وانتسابه البيئي يعزز المجتمعات بمفاهيم جديدة، ويخلق نهجاً من التفكير السلمي بين الناس، كما أن التقاء الحضارات ينتج حضارة جديدة، يتجدد فيها فكر الانسان ويخرج من عقاله الى عالم أوسع وفضاء أرحب"، مشيراً إلى ان "أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار تسلك طريقها الى التنفيذ، وسيلتقي فيها طلاب من مختلف الأديان والثقافات والإتنيات، وسيكتشفون أنهم يتشابهون بالرغم من اختلافاتهم، وأنهم أبناء حضارة إنسانية واحدة، فيحملون تجربتهم، كلٌ الى محيطه، وينشرون ثقافة جديدة تحمل السلام والتسامح واحترام التنوع".
وأشار إلى أن "كلّ واحد منّا هو الآخر بالنسبة لآخر، ومعلوم أنّه "إذا خالفك آخر فافتح معه حواراً"، لأن الأنسان عدو لما ومن يجهل، هذه هي قيمنا المشرقية، وسنبقى نجسدها ولن نسمح لأحد أن يسلبنا هويتنا وثقافتنا، أو يأخذنا الى خيارات تتعارض ومصلحة وطننا وشعبنا ومجتمعنا"، لافتاً إلى ان "وجودنا اليوم في مؤتمر اللقاء المشرقي هو خطوة في مسيرة إنسانية على درب هذا المشرق، وكل أملنا أن تتضافر جميع الجهود للمحافظة عليه وعلى ما يمثل"، معتبراً أن "المشرق هو أكثر بكثير من منطقة جغرافية؛ هو فكرةٌ، هو روحٌ، هو أرضٌ جمعت وحضنت وهكذا كان عبر التاريخ وهكذا يجب أن يبقى، نموذجاً مستقبلياً للبشريّة جمعاء وصورة مشرقة لثقافة السّلام".