لم يكن خطاب رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيل في ذكرى 13 تشرين الأوّل عادياً، ولا مماثلاً لخطابات الرجل الأخرى، منذ وصول مؤسس "التيار" العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية.
من "الضرب على الطاولة" إلى "قلب الطاولة" مروراً بـ"مواجهة الصفقات"، ووصولاً إلى "الجرف" رداً على "المخرّبين والمتطاولين"، عباراتٌ ومصطلحاتٌ غير دبلوماسيّة استخدمها وزير الخارجية، موجّهاً من خلالها رسائل شفّافة وواضحة إلى الخصوم.
لم يكتفِ بذلك، فاختار الذهاب بـ"التحدّي" حتى النهاية، مفجّراً قنبلة سياسيّة بإعلانه أنّه "ذاهب" إلى سوريا، زيارة لطالما كانت في بال الرجل، لكنّه كان يؤجّلها تفادياً لمشاكل مع "الشركاء"، وعلى رأسهم رئيس الحكومة سعد الحريري.
فلماذا اختار باسيل رفع الصوت بهذا الشكل وفي هذا التوقيت بالتحديد؟ وما هي الرسائل التي أراد إيصالها إلى الخصوم، وربما إلى الشركاء المفترضين قبلهم؟ وأيّ تداعياتٍ لذلك على المشهد اللبنانيّ العام؟!.
حان وقت التغيير؟!
لخطاب باسيل في ذكرى 13 تشرين الأوّل أكثر من رمزيّة، في الشكل قبل المضمون، فهو يأتي قبل أيام فقط من ذكرى مرور ثلاث سنوات على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وانطلاق ما يحلو لـ"العونيّين" توصيفه بـ"العهد القوي"، فيما يجهد خصومه لتفريغه من مضمونه، عبر الحديث عن "صفر إنجازات" تحقّقت في نصف الولاية.
من هنا، يمكن تفسير كلام باسيل عالي النبرة بأنّه بمثابة "ردّ فعل" على كلّ "الحملات" التي تطال "التيار" منذ فترةٍ غير قصيرة، وهي حملاتٌ لا يتردّد "العونيّون" في نزع صفة "البراءة" عنها، بل وضعها في خانة "المؤامرة"، "مؤامرة" تتّخذ تارةً صورة إشاعاتٍ يتمّ افتعالها أو تضخيمها لضرب العهد والدولة، وطوراً شكل تحرّكاتٍ احتجاجيّةٍ غير عفويّة، يُحصَر فيها التصويب على "التيار"، دون غيره من الأفرقاء الذين لا يزالون في سُدّة المسؤولية منذ ما قبل الطائف.
وفيما يسخر خصوم باسيل من هذا المنطق، وتبنّيه "نظرية المؤامرة" التي كان "التيار" من أشدّ منتقديها في مراحل سابقة، فإنّ "العونيّين" لا يتردّدون في اتهام "شركائهم" في الحكم قبل غيرهم، بـ"التورط" في هذه "المؤامرة" عن سابق تصوّر وتصميم، في "انقلابٍ" غير خفيّ على "العهد"، كما يقولون، وإن كانوا يستندون إلى حقائق مُرّة أيضاً، على رأسها دقّة الوضع وصعوبته، خصوصاً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، في ضوء المآسي الكثيرة التي يعيشها اللبنانيون.
انطلاقاً ممّا سبق، يمكن القول إنّ باسيل أراد من خلال خطاب 13 تشرين أن يقول إنّ "التيار" ليس راضياً عن الواقع الذي وصلت إليه الأمور، وإنّه ليس المسؤول عنه، بخلاف ما يروّج الكثيرون، بل إنّ الرجل ذهب أبعد من ذلك، بكشفه النقاب عمّا يمكن وصفها بـ"خطة المواجهة"، التي بات جاهزاً لوضعها حيّز التنفيذ في أيّ لحظة.
"خطة مواجهة"
في جانبها الأول، تقوم "خطة المواجهة" هذه على إنهاء منطق "المسايرة" الذي لطالما اشتكى "العونيّون" من أنّه يكبّلهم ويقيّدهم. الدليل الأسطع على ذلك يتمثّل في الحكومة، حكومة لا تشبه اسمها بشيء، سواء كان حكومة الوحدة الوطنية أو حكومة إلى العمل. ويقول "التيار" إنّ ثمّة أفرقاء في الحكومة لا يجدون ضيراً في "شلّ" عملها للقول إنّ "العهد" مقصّر ومتواطئ، معتقدين أنّ في خراب البلد في ظلّ هذا العهد، مصلحة شخصيّة لهم، ولو كانت بعيدة المدى.
ولعلّ إعلان باسيل عن زيارةٍ يستعدّ للقيام بها إلى سوريا، بعد أقلّ من 24 ساعة على دعوةٍ أطلقها من منبر الجامعة العربية لإعادة سوريا إلى حضنها، وهي رسالة أثارت الكثير من الحساسيّات في الداخل، دفعت رئيس الحكومة إلى الدخول شخصياً على خطها لتوضيح الموقف الرسميّ، أكثر من رسالة، قوامها أنّ مراعاة الآخرين والوقوف على خاطرهم تراجع في سلّم الاهتمامات، ولم يعد البند الأول على جدول الأعمال.
أما الجانب الثاني من الخطة، والذي يأتي مكمّلاً للأول، وإن بقي متروكاً للظروف، فيتعدّى كلّ ما سبق، ويمتدّ إلى الميدان، عبر التلويح بما يمكن وصفه بـ"الانقلاب على الانقلاب". فقد قال باسيل في هذا السياق، كلاماً صريحاً عن أنّ "ما ترونه اليوم في الحدت هو مشهد مصغّر لما يمكن أن يكون، لتتذكّروا أنّنا تيّار وطني حرّ"، مضيفاً: "كما الماء نحن، نجرفكم في لحظة لا تتوقّعونها، إن بقيتم منتظرين عند حافّة النهر تنظرون مرور جثتنا!".
بمعنى آخر، فإنّ باسيل، الذي توجّه إلى الخصوم، واصفاً إياهم بـ "المخرّبين" في مفارقةٍ لافتةٍ، يلوّح بتغييرٍ لقواعد اللعبة معهم، أياً كانت العواقب، وحتى لو أدّت إلى "قلب الطاولة"، وهو ما قال إنّ "التيار" مستعدٌ وجاهزٌ له، موحياً بأنّ النصف الثاني من الولاية الرئاسية لن يكون كالأوّل، وأنّ منع "العهد" من تحقيق الإنجازات لن يمرّ دون ردود، قد يكون الشارع أحد أبرز تجلياتها، وهو ما سبق لرئيس الجمهورية ميشال عون أن لوّح به في وقتٍ سابق.
ضغوط واتهامات...
إذا كان "العهد" يتحدّث عن ضغوطٍ يتعرّض لها، وقيودٍ تُفرَض عليه بغرض التشويش، فإنّ خصومه يعتبرون أنّ "سلوكه" لا يعفيه من المسؤولية، في ظلّ الاتهامات التي تُوجَّه له بانتهاج سلوكٍ يتناقض في بعض مناحيه مع ما كان ينادي به في السابق من مبادئ وشعارات.
لكن، بين هذا وذاك، ثمّة من بدأ يستشرف "شكل" المرحلة المقبلة التي يلوّح بها "التيار"، متسائلاً عمّا إذا كانت الساحة اللبنانية ستشهد مثلاً تحرّكات شعبية وتظاهرات مضادة، "نُصرةً" لرئيس الجمهورية، ومن باب الضغط لتحقيق "المكاسب"، تماماً كما كان يحصل قبل الوصول إلى بعبدا.
مثل هذا المشهد، وإن كان متوقَّعاً، لا يبدو معهوداً في لبنان، الذي يبدو أنّه سينقل إنهاء الفصل بين "الموالاة والمعارضة" في الحكومة إلى الشارع أيضاً، بل إنّ البعض يقول إنّه ينقل النظام اللبناني إلى مكانٍ آخر، مكانٍ يشبه بعض الأنظمة العربية، التي تتناقض مع جوهر الديمقراطية اللبنانية المزعومة...