يضجّ لبنان بمواقف سياسية بشأن إعادة تنظيم العلاقة مع سوريا. لم يكن قرار وزير الخارجية جبران باسيل بشأن نيّته زيارة دمشق هو السبب الوحيد. سبق وأن حصلت سجالات داخل جلسات مجلس الوزراء بين رأيين، أحدهما يدعو الى تنظيم اطر العلاقة الرسمية بين بيروت ودمشق، والثاني يرفض الأمر ويتخفّى وراء قرار جامعة الدول العربيّة، لكن جرى ضبطها تحت عنوان: زيارات شخصية لوزراء ليست بإسم او تكليف الحكومة. يمثّل الرأي الأول وزراء حركة "أمل" و"حزب الله" و"المردة" و"الإتحاد" و"الديمقراطي"، ويمثّل الرأي الثاني وزراء "التقدمي الإشتراكي" و"القوات" و"المستقبل"، بينما كان يحاول التيار "الوطني الحر" ان يراعي الفريقين بدعوته الى ترتيب العلاقة من دون أن يخطو عملياً في ذلك، تحت عنوان "الحفاظ على الإستقرار السياسي الداخلي" خشية من ان تسبّب أيّ زيارة لوزير الخارجية الى دمشق إشكالاً مع رئيس الحكومة سعد الحريري أو أيّ عاصمة خارجية رافضة للتنسيق اللبناني-السوري.
منذ أيّام الحكومة السابقة زار وزراء "أمل" و"حزب الله" و"المردة" دمشق مراراً وأجروا لقاءات رسمية مع رئيس واعضاء الحكومة السوريّة. كان التنسيق يجري ايضاً بين رئيسي مجلس النواب اللبناني ومجلس الشعب السوري في إتصالات ورسائل وتنسيق بشأن المؤتمرات الخارجية، إلى حدّ ان رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري كان يرفض حضور أي مؤتمر نيابي عربي او اقليمي بغياب سوريا. لكن القرار الحكومي اللبناني الرسمي كان يراعي الاعتبارات الحريريّة والعربيّة والغربيّة، غير أنّ المشهد تبدّل بتغيير رأي الحريري من الرفض الى الموافقة الضمنيّة على وجوب التنسيق مع سوريا. لا يستطيع هو شخصيا ان يقوم بالمهمة، لكنه لا يعارض ايّ خطوة يقوم بها ايّ وزير نحو دمشق. وهو ما عزّز من توجه باسيل لزيارة سوريا.
بالمقابل، ترصد دمشق المشهد بصمت ومن دون اي تعليق، لكن: من قال ان سوريا تحتاج الى اعادة ترتيب العلاقات السياسيّة الحكوميّة اللبنانيّة الرسميّة معها؟ يتسابق اليها نافذون عرب واقليميّون وغربيّون الآن، وهي ترسّخ انتصاراتها العسكريّة ضد الإرهاب وتسحق مشاريع الإنفصال في شمال البلاد بمعادلة العصا والجزرة. ولم تخفِ عواصم خليجيّة تأييد سوريا في وجوب مواجهة الأتراك ومنعهم من التمدّد في الأراضي السوريّة. وسمع لبناني زار عاصمة خليجيّة استعداد دول الخليج لتمويل دمشق في مسارها ضد أنقره.
تدرك سوريا ان المصلحة اللبنانيّة فقط تكمن في ترتيب العلاقات بين بيروت ودمشق. تلك المصلحة هي في تخفيض الرسوم السوريّة على شاحنات الترانزيت اللبنانيّة التي تمرّ نحو الاردن عبر معبر نصيب، ولاحقا الى العراق عبر معبر البوكمال. ستتأثر الزراعة إيجاباً وتخفف على الخزينة اللبنانية مصاريف النقل عبر البحر وتنشّط الإنتاج اللبناني وتخلق دورة إقتصاديّة كاملة خصوصا في البقاع وعكّار. وللدلالة على الحجم الإيجابي للتنسيق اللبناني-السوري هو ما ثبّتته الاتفاقيات الزراعية اللبنانية الاردنيّة التي جرى توقيعها في الأيام الماضية، على ان يتبعها توقيع اتفاقيات لجرّ الكهرباء من الاردن الى لبنان عبر الشبكة السورية.
المصلحة اللبنانية الكبرى التي يركّز عليها باسيل حالياً هي موضوع اعادة النازحين السوريين الى بلدهم. ومن هنا يحاول أن يعمّم وزير الخارجية اللبناني عنواناً لزيارته إلى دمشق يبرّر من خلالها الخطوة المرتقبة نحو سوريا. لكن، من قال إنّ سوريا راضية الآن عن عناوين التبرير المذكورة؟ دمشق لا زالت صامتة، ولم تعلّق على كلام باسيل او غيره، ولا هي تعتبر نفسها معنيّة. لكنّ الكلام الذي يتمّ التداول به بين أوساط لبنانيّة تفيد أنّ السوريين يريدون علاقات طبيعيّة لا تقوم على مصالح آنيّة، ولا وفق شروط تضعها قوى سياسيّة. دمشق لا تكترث لحملات اعلاميّة ومواقف على صفحات التواصل الإجتماعي تستهدف عودة التنسيق اللبناني-السوري. فالجغرافيا والتاريخ والطبيعة تفرض جميعها ان يكون لبنان في وئام مع سوريا، وان يجري التنسيق بين دمشق وبيروت وفقاً لمعاهدات قائمة بين البلدين جمّدتها الحملات والتجنّي والأحقاد والمراهقة السياسية والارتباطات بالأجندات الخارجية التي حصلت بعد عام 2005.
توحي كل المؤشّرات ان سوريا لا تريد زيارات مشروطة، أو مبررة مسبقاً، بل تريد زيارات رسميّة مسؤولة تعيد العلاقات بين البلدين الى طبيعتها، بكل إتجاه امني وسياسي وقومي. ومن هنا فإنّ هناك من يقول: آن الأوان لعلاقة لبنانية-سورية غير مبنية على مصلحة لا إقتصادية ولا بشأن النازحين. بل ان الواجب اللبناني يقتضي ترتيب العلاقات لتنفيذ مضمون المعاهدات السارية المفعول بين البلدين. قد لا تقبل دمشق بتنفيذ مطالب لبنانيّة بالمفرق، من دون التزامات حول ترجمة مصالح مشتركة بالجملة. السوريّون الآن ليسوا مستعجلين. فهل تلبي القوى اللبنانيّة مطالب سوريّة مرتقبة؟.