حين أمرنا الله عزّ وجل بإطاعة الله وإطاعة الرسول وأولي الأمر ذلك لأن التعريف المتضمن لأولى الأمر يقترب في صدقه وحرصه ونزاهة رسالته من التعريف الحقيقي للأنبياء والصديقين. ذلك لأن المفهوم هو أن أولي الأمر هم من يتولون شؤون الرعية ويبذلون وقتهم وجهدهم وعلمهم وحياتهم في خدمة الناس غير طامعين باجر أومقابل سوى أداء المهمة على أكمل وجه ورضى الله والرعية عنهم. في هذا التعريف لأولي الأمر تقاطع حقيقي وأكيد مع أصحاب السياسات الشفافة الحريصين على الناس، الناذرين أنفسهم فقط للخدمة العامة وتحسين أحوال البلاد والعباد. والمكافأة لهؤلاء في الدنيا هي سيرتهم الحميدة التي يورثونها لأولادهم وأحفادهم والتي تصبح أغلى مايملكون وتبقى عزهم وكرامتهم بين الناس لعقود بعد انقضاء حياتهم ومواراتهم الثرى، ولذلك ومع كل رحمة على من توفاه الله يقول الأقدمون: “هنيئاً لصاحب الذكر الحميد" لأننا في هذه الدنيا عابرون جداً، وكلّ ما تبقى للأحباب والأهل هو هذا الذكر الحميد والذي في الحقيقة والواقع لا يُقدّر بثمن. وإذا ما أردنا اليوم أن نحلّل وضع الشعوب الهائمة على وجهها في بلدان مختلفة والأسباب الحقيقية لمختلف أوجه معاناتها، نتوصل بالتأكيد إلى الاستنتاج أن هناك فراغاً ما ونقصاً لم يملَأْه أولو الأمر رغم ادعاءاتهم بعكس ذلك. وهنا تكمن المشكلة الأكبر وهي اننا في التحليل والدراسة المعمّقة لأوضاع الشعوب علينا ان نحلّل الواقع وعوامله ومظاهره وتطوراته، لا أن نستند إلى ما يقال بل إلى ما يتم فعله وتنفيذه ومتابعته وتطويره على أرض الواقع.
وصلتنا قصص جميلة عن أولي أمر اضطروا في ختام حياتهم أن يبيعوا سجاد البيت لكي ينفقوا على أدويتهم رغم انهم شغلوا مناصب عامة ذات ميزانيات ضخمة وقد سمعت هذه القصة شخصياُ من المرحومة سلمى الحفار ابنة لطفي الحفار والذي حاول الفرنسيون إغراءه بما يريد ويشتهي كي يتحكموا بمياه نبع الفيجة ولكنه رفض رفضاً قاطعاً وعمل على إيصال مياه الفيجة إلى دمشق وعلى إبقاء مؤسسة مياه عين الفيجة مؤسسة أهلية يتشارك في ملكيتها أهالي دمشق وهي مازالت كذلك إلى حدّ اليوم. وحين عثر في بيته القديم في الميدان على بحرة جميلة نتيجة حفريات نقلها ووضعها في صالة عين الفيجة وهي مازالت هناك شاهدة على أنّ لطفي الحفار اعتبر مبنى الفيجة أهم من بيته، وورثها للأجيال التي تزور ذلك المبنى العريق الجميل في شارع النصر في دمشق، ولكنه وحين كبر اضطر إلى بيع ثلاث سجادات لكي ينفق على دوائه. وفي أقطار مختلفة نسمع قصص الأولين الذين وهبوا حياتهم وجهودهم فعلاً للخدمة العامة وأورثوا أولادهم وأحفادهم شرف الأسماء التي حملوها والأعمال الجليلة التي قاموا بها. ولكن الاحتلال العثماني لبلداننا وعلى مدى أربعة قرون بذل كلّ مافي وسعه لإفساد العباد والبلاد وحارب فكرة الإخلاص للدولة والعمل العام، وبذر بذور الفساد والرشوة والتقاعس بحيث أصبح أولو الأمر حفنة من المتواطئين معه على حساب مصلحة بلادهم والمستفيدين من هباته وعطاءاته على حساب البلاد والعباد. وفي وقت أحدثْ عمل الاحتلال الأميركي في العراق وفق المنهج ذاته فنشر بذور الفساد وقرّب حفنة من الذين يرغبون بتحقيق مكاسب شخصية لأنفسهم وأهليهم على حساب المصلحة العامة والتي من المفترض انهم يمثلونها. واختلطت هذه الفكرة والأسلوب بأفكار لاتقلّ خطراً وهي أن المحتلّ الغربي الذي سوف يهبنا في الوقت المناسب بعضاً من حضارته وأسلوب حكمه يدعي أنه يتسم بالعدل والنزاهة ويعمل على إرساء أسس التقدم والازدهار لجميع رعاياه.
وبين هذا وذاك شاب الغموض والتشويه مفاهيم الحكم وموجبات هذا الحكم على أولي الأمر أولاً وعلى البريّة ثانياً؛ فلا نحن عدنا للأصول فيما أملاه علينا ديننا وثقافتنا وحضارتنا في أوقات ألقها وازدهارها، ولا نحن فرزنا الغث من السمين في كل ما تمّ استقدامه من قبل محتلين وطامعين وأُدخل على ثقافتنا وأصبح جزءاً منها ينتظر من يمتلك الجرأة والصدق والصبر ليعيد تنقية المفاهيم من شوائبها ووضع القواعد التي يبنى عليها حتى وإن استغرقت وقتاً حتى تثمر وتُؤتي أكلها.
لا شك أن مثل هذه المهمة الصعبة والمعقدة تحتاج إلى نخب تعي أبعادها أولاً وقادرة على تفكيك كل رموزها ومرتسماتها ووضع البدائل السليمة والفعالة بأسلوب سهل وقابل للفهم. ولكن المشكلة الأخرى التي يواجهها الناس في معظم أقطارهم في العالم العربي والغربي هي إما غياب النخب وإما استغراق هذه النخب في مصالحها الخاصة وعدم الاكتراث بالشأن العام ومتطلبات هذا الشأن التي تحتاج إلى قناعة وإدراك عميقين وصبر وجلد ودأب بحيث أصبحت الإنتهازية سيدة الموقف ، وتدريجياً تقبل الناس فكرة تكديس ثروات لدى أصحاب الشأن العام دون أن يسال أحد "من أين لك هذا"، بل وصلت المسألة، في العالم العربي خصيصاً في مختلف أقطاره،إلى شبه استنكار لمن أمضى في الخدمة العامة عقوداً من عمره دون أن يتمكن من الانضمام إلى الطبقة المترفة والتي تعتبر نفسها اليوم أنها هي النخبة لأنها هي صاحبة النفوذ والآمرة الناهية في مسائل عدة تتعلق بشؤون البلاد. أي أنه وإلى حدّ ما تم استبدال النخب الفكرية ذات القضية، سواء أكانت هذه القضية فكرية أم خدمية أم سياسية، بشبكات اعتبرت نفسها هي النخب البديلة وهي لاتعمل شيئاً سوى تحقيق مصالحها ومصالح من ينتمون إلى هذه الشبكات فقط باعتبارهم المعنيين بتسيير الأمور. كما أن هذه النخب البديلة وبعد ان استمتعت بالسلطة والمالتعمل على إزاحة أي عنصر ينتمي إلى النخب الحقيقية الحريصة فعلاً على الشأن العام والمستعدة للتضحية في سبيله باعتبار أن هذا المفهوم وهذه الأخلاق قد غرست في ضميرها ووجدانها منذ الصغر ومازالت هناك فئة وإن كانت قليلة جداً تقدّر مثل هذا الانتماء ومثل هذه التضحيات.
الحلّ اليوم والذي لابدّ منه في وطننا العربي على وجه الخصوص بمختلف أقطاره هو أن نعيد التفكير ملياً بأسلوب وأدوات عملنا، وبالنتائج التي أفضى إليها هذا الأسلوب وهذه الأدوات ، وأن نسال بكل جرأة ومصداقية: هل نحن على الطريق الصحيح أم أن هناك الكثير من المفاهيم والأساليب التي تحتاج إلى تنقية حقيقية وتغيير وجهة؟ قبل أن نستمر في السير ونسرع الخطى ونتوهمأننا سوف نصل إلى مآلنا. المرحلة اليوم تتطلب التفكير المعمّق بمناهجنا التربوية والتعليمية أولاً، وبالقيم السياسية والثقافية والمجتمعية التي تسود مجتمعاتنا، وأن نسأل: هل هذه هي المناهج والقيم المؤهلة لكي تكون سلاحاً حقيقياً بأيدي الأجيال القادمة توصلهم إلى برّ الأمان؟ أم أننا بحاجة إلى اجتراح مفاهيم وأساليب وقيم تنقض كل ما أوصل مجتمعاتنا إلى هذا التيه وتعيد الامور إلى نصابها السليم، ونبدأ ولو متأخرين ولكن بداية سليمة واثقة تدرك الهدف جيدأ وترسم الخطوات الصحيحة والواثقة التي تمكن فعلاً من بلوغ هذا الهدف. المهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة ومازالت مؤجلة منذ عقود وما زال العرب في مختلف أقطارهم يحاولون التعايش مع واقع صعب غير منتج يشوبه قدر كبير من الخلل. حان الوقت للاعتراف أن هذا الطريق لايوصل أجيالنا المستقبلية إلى برّ الأمان، ولذلك فإنهم اتخذوا من الهجرة سبيلاً وحيداً لتحقيق آمالهم ومستقبلهم، وحتى لتحقيق ذاتهم في العلم والعمل. لابد أن نعيد تعريف أهدافنا الوطنية فعلاً والنابعة أولاً وأخيراً من مصلحة بلداننا وأمتنا وأن نستلهم من المضيء من ثقافتنا وتاريخنا سبل تحقيق هذه الأهدافبعيداً عن الامتثال للأفكار المندسّة إلينا من قبل المحتلين والطامعين والمستهينين بنا وبأمتنا منذ قرون، وبعيداً عمن لايرون في المرآة سوى ذاتهم المتضخمة والتي تطغى على صورة العبادوالبلاد في أعمالهم وضمائرهم.