هو حراكٌ غير مسبوق في تاريخ لبنان الحديث، أقلّه بنظر الأحزاب السياسية المتعاقبة على الحكم، والتي لم تعتد أن تباغتها لعبة الشارع، ولم تتوقّع أن ينتفض ناسها عليها، كما هو حاصل منذ أيام في لبنان.
شكّل الأمر مفاجأة بالنسبة إليها، هي التي كانت تلوّح قبل أيام قليلة بلعبة الشارع، باعتباره وسيلةً مُثلى لابتزاز الخصوم وتحقيق المكاسب الآنيّة الضيّقة، معتقدةً أنّها لا تزال مضمونة، وأنّ الشارع لا يزال مُلكها، تحرّكه كيفما تشاء.
سريعاً، تحوّلت المفاجأة إلى صدمة، صدمة اتّحدت الأحزاب السياسية في عدم القدرة على استيعابها، وتفهّم حيثيّاتها ودوافعها، وإن تفاوتت ردود فعلها عليها وطريقة تلقّفها، بين الهروب إلى الأمام تارةً، وركوب الموجة تارةً أخرى...
بلا حسد...
يختصر موقف رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط من الحراك الشعبي الذي شهدته مختلف المناطق اللبنانية منذ يوم الخميس، وضع الأحزاب الرئيسية إزاء الحراك، والضياع الذي وجدت نفسها في قلبه، رغماً عنها.
في اللحظة الأولى، بدا جنبلاط كمّن يرسم مسافة بينه وبين الحراك، الذي انطلق زخمه بإشكالٍ كان وزير التربية (المحسوب عليه) أكرم شهيّب أحد أبطاله، قبل أن يتبنّى "الثورة" بشعاراتها ومطالبها، ويعتبر أنّها جاءت لتكمّل حراكاً كان بدأه قبل أيام، في سياق صراعه المستمرّ مع "العهد"، والذي لم تنجح مصالحة بعبدا في إنهاء فصوله.
لكنّ جنبلاط الذي كان من أوائل الداعين إلى استقالة الحكومة، والذي أبدى "تفهّمه" لهجوم الناس الذي طاله على المستوى الشخصي، كونه من "الثوابت" في كلّ الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف، لم يصمد طويلاً عند موقفه، إذ تراجع عنه بعد ساعات، محذراً من مخاطر الفراغ، وما يمكن أن يفرزه من مجهول على أكثر من مستوى.
"الضياع" الذي طبع الموقف "الجنبلاطيّ" ليس سوى عيّنة عن حال مختلف الأحزاب السياسية التي ارتبكت في قراءة الحراك ومدلولاته، وهو ما ظهر واضحاً من خلال الخطابات الأولى التي تلت انطلاقته، والتي كان لافتاً فيها حرص الجميع على "التضامن"، ولو شكلياً، مع المتظاهرين، وعدم تخوينهم كما درجت العادة، وكما حصل مثلاً إزاء حراك 2015، الذي لم يتردّد الكثير من السياسيين في اتهام أيادٍ خارجيّة وسفاراتٍ أجنبيّة بتحريكه، وهو ما لم يُرصَد هذه المرّة، في الخطابات الرسميّة بالحدّ الأدنى.
ولعلّ ما جاء على لسان كلّ من رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل، إضافة إلى الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، يعزّز هذه النظريّة، خصوصاً أنّ هؤلاء الذين يشكّلون عصب الحكومة، تجنّبوا الحديث عن "مؤامرات" خلف ما يحصل، مع أنّهم كانوا قد حذّروا من هذا السيناريو مراراً وتكراراً في السابق، قبل أن يدركوا أنّ لعبة الشارع أفلتت من أيديهم، بشكلٍ أو بآخر.
استفزاز واستغلال؟!
لكن، بموازاة هذا الحديث، أخفقت معظم الأحزاب في تلقّف حجم ما يحصل، برأي كثيرين، ممّن قرأوا في بعض الخطابات "استفزازاً" للشعب في غير مكانه، بل محاولةً لتوظيف الشارع لتحقيق مصالح آنيّة. ووُجّهت انتقادات في هذا السياق إلى الوزير باسيل مثلاً، الذي لم يتردّد في القول إنّ التحرّكات ليست موجّهة ضدّه، بل إنّه يريد البناء عليها لتحقيق مشروعه الاقتصادي والإصلاحي، مع أنّ اسم الوزير باسيل كان من بين الأسماء الأكثر تكراراً في الشارع.
ولم يأتِ خطاب السيد نصر الله بنتائج أفضل، باعتبار أنّ التضامن الذي حرص الرجل على إبدائه مع المتظاهرين، وإقراره بأحقّية مطالبهم تماماً كما معاناتهم وألمهم، جاء توازياً مع إفراغٍ لهذه المطالب من مضمونها، من خلال التمسّك بالحكومة بالمُطلَق، ورفض استقالتها، أو حتى الإتيان بحكومة تكنوقراط مكانها، بل بالحكم سلفاً على التحرّكات بأنّها لن تجدي نفعاً، ورفض كلّ السيناريوات المطروحة، من إسقاطٍ للعهد، أو حتى طرح لانتخابات مبكرة.
أما موقف رئيس الحكومة سعد الحريري المبدئيّ من الحراك، فجاء بنظر كثيرين مخيّباً للآمال، ليس لكونه رمى الكرة في ملعب شركائه في الحكومة فحسب، محمّلاً إيّاهم مسؤولية ابتكار الحلّ، بل لأنّه توازياً مع ذلك، أوحى بقدرته على إيجاد حلّ للأزمات المتفاقمة خلال 72 ساعة، وهو ما شكّل دليل إدانة له ولحكومته، بعد عجزه عن تحقيق أيّ نتيجة على مدى ثلاث سنوات، بل قوله مراراً وتكراراً إنّ أيّ حلّ لا يمكن أن يتحقّق سوى بفرض الضرائب، أو ما أسماها بالإجراءات غير الشعبية، ليتبيّن في نهاية المطاف أنّ البدائل متوافرة وممكنة.
ولا يقف التخبّط عند الأحزاب المذكورة، بل تمدّد ليصل إلى تلك التي صنّفت نفسها في خانة المعارضة، وحاولت تبرير موقفها، على غرار حزب "القوات اللبنانية" الذي جهد للخروج بمظهر "البطل" عبر إعلانه الاستقالة من الحكومة، بعد أكثر من 24 ساعة على انطلاقة الحراك، في مفارقةٍ لافتةٍ، خصوصاً أنّه كان يرفض الفكرة من بكرة أبيها في السابق، بإصراره على أنّ المعارضة من الداخل تبقى أهمّ، وأنّ استقالته غير مفيدة ولا نافعة، وبالتالي فهو لم يستقِل إلا تحت الضغط وعند شعوره بأنّ الحكومة سقطت عملياً، محاولاً بذلك تحصيل المزيد من المكاسب، ولو على حساب شركائه.
تخبّط وأكثر...
لا شكّ أنّ ما حصل لم يكن متوقَّعاً من قبل الأحزاب الفاعلة في لبنان، أحزاب كانت قبل أيام قليلة تلوّح بشارعٍ من هنا، وتهوّل بأوراقٍ من هناك.
لكنّ التخبّط الذي وجدت هذه الأحزاب نفسها في قلبه يحمل الكثير من المعاني. "القوات" خرجت عن مبدئية رفض الاستقالة، و"الاشتراكي" لم يعرف إن كانت مصلحته في الاستقالة، أم في ضمان سقوط الحكومة الحتميّ أولاً.
ومثلهما، وجد رئيس الحكومة نفسه في موقفٍ لا يُحسَد عليه. يريد الاستقالة لعلّه بذلك يكسب رضا الرأي العام، ولكنّه في الوقت نفسه متمسّكٌ بموقعه، ويخشى خسارته بأيّ دعسةٍ ناقصةٍ، أمام الشعب أو الشركاء.
أما "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، اللذان حاولا الإيحاء بأنّ التحرّك لصالح أجندتهما "الإصلاحيّة"، إن وُجِدت، فطبع التخبّط موقفهما أيضاً، إذ إنّ شعارات الشارع المناهضة لهما واضحة، والنقمة الشعبية عارمة.
هو التخبّط، تخبّطٌ لن تنفع معه أوراقٌ إصلاحيّة من هنا، أو وعودٌ جفّ حبرها من هناك، فمعادلات الماضي تغيّرت، وعلى الجميع استيعاب ذلك والتحسّب لنتائجه...