ما يشهده لبنان هذه الأيام هو انتفاضة محقّة، بعد سنوات على السياسات الاقتصادية الفاشلة التي أوصلت البلاد والعباد إلى حافة الهاوية.
لا يمكن أيّ شخص أن يضع ما حدث في إطار «مؤامراتي»، كما يحدث غالباً. حتى الأطراف السياسية - ومن بينها من هو مسؤول بدرجة أو بأخرى عن الواقع المزري الذي يرزح تحته المواطن اللبناني - أقرّت بأحقّية المطالب، ورفضت أي شكل من أشكال التخوين للحراك القائم.
مع ذلك، فإنّ ما حدث ليس بقليل، والكلام الإنشائي عن «المطالب المحقة» و»تفهّم الغضب»... إلى آخر عبارات التنميق هذه، لا يكفي إذا ما كانت النية جدّية لإعادة وضع البلاد على الطريق الصحيح، أملاً في فرصة انقاذية، قد تكون الأخيرة لتجنّب كارثة الانهيار.
بهذا المعنى، ثمة حاجة إلى تحمّل المسؤولية على قاعدة «كلٌّ بحسب فعلته»، بعيداً من الانتهازية التي تسعى إلى إلقاء التبعات على طرف دون آخر، ومحاولة ركوب الحراك الشعبي، كما لو أنّ بعضاً ممن أداروا شؤون البلد خلال السنوات الماضية، أو شاركوا فيها وبلعوا من خيراتها، هم «شرفاء مكة»، في حين أنّ آخرين هم «الشيطان الأكبر».
وطالما أنّ «الديموقراطية التوافقية» التي قَبل بها اطراف المنظومة الحاكمة للبلاد، بكل ما انتجته من تسويات وشراكات سياسية وحكومية، فإنّ مسؤولية الانقاذ، ومحاربة الفساد، يجب أن تكونا للجميع.
هذه الشراكة، اذا كانت فعلية، وعلى ما يقول مسؤول كبير، توجب ان يتحمل الجميع قسطه من المسؤولية، وبهذا المعنى، يصبح واجباً على القوى السياسية المتشاركة، أن تعود إلى رشدها، عبر البناء على ما تحقّق في «الورقة الاصلاحية»، وتطبيقها بعيداً من أيّة مكايدات ومزايدات، لأنّ البلد لا يحتمل، ولأنّ الكارثة ستقع على الجميع، في حال استمر نهج ما قبل 17 تشرين الأول 2019.
وإذا كانت المسؤولية الأولى تقع على عاتق شركاء الحكم، فالشارع نفسه مطالب ببعض الواقعية، وبالتالي الابتعاد عن شعارات فضفاضة من قبيل «كن واقعياً وأطلب المستحيل».
فما انتجته الورقة الاقتصادية، التي وافق عليها كل من حضر جلسة مجلس الوزراء، هي أقصى ما يمكن تحقيقه واقعياً في الفترة الراهنة.
وبذلك، فإنّ الشارع حالياً لا يمكنه الاستمرار في السير ضمن الافق غير المحدود، وإلّا فإنّ الفوضى التي يريدها البعض، وربما يسعى اليها بشكل أو بآخر، لن تترك أيّ شيء يمكن البناء عليه، وستبدّد بالتأكيد كل ما انتُزع حتى الآن من مكتسبات.
قد لا يكون الشارع شاعراً بما أنجزه، ولكن الواقع أنّ ما حدث منذ عشية 17 تشرين الأول، انتج مفهوماً جديداً لإدارة الأزمة الاقتصادية الحالية، والسياسات الاقتصادية بشكل عام، وهو أنّ الحكومة اللبنانية لم يعد باستطاعتها استسهال فرض الضرائب التي تثقل معيشة الفقراء، وتغرق الطبقة الوسطى في مستنقع الأزمات المتلاحقة.
ثمة انتصار محقّق في الحراك الأخير، وهو تراجع السلطة عن السياسات الموجّهة ضد المواطنين، وهذا يجعل الحراك الشعبي حراكاً تراكمياً، من شأنه أن يكون مؤثراً في كل الإجراءات الحكومية، سواء تلك التي تضمنتها الورقة الاقتصادية، أو غيرها، ناهيك عن التنفيذ الذي يُفترض أن يقترن في الفترة المقبلة بقرارات واضحة لا لبس فيها.
واذا كان الكل مطالباً بتحمّل قسطه من المسؤولية تجاه الوطن واقتصاده، إلّا أنّ هذه المسؤولية، ووفق قراءة سياسية محايدة، تختلف بين مكان وآخر:
- فالمسؤولية الأساسية، تقع على عاتق القوى السياسية، ولا سيما شركاء الحكم، لأنّهم من «أصعد الحمار إلى المئذنة»، وبالتالي فالتوافق الذي تحقّق في مجلس الوزراء حول الورقة الاقتصادية لا بدّ من أن يرتبط بعقد سياسي جديد، ينحي فيه الأطراف السياسيون خلافاتهم العبثية لمصلحة العمل المشترك، طالما أنّ النقمة الشعبية تجتاح السلطة.
- أما المسؤولية الأكثر من أساسية، فتقع على عاتق الشارع، وتحديداً على الناشطين المعارضين للطبقة الحاكمة، بأن يذهبوا الى واحد من الخيارين الآتيين:
الأول: البناء على ما حقّقه الحراك الشعبي، أي الورقة الاقتصادية، وبالتالي الذهاب إلى ما لا نهاية في الحركة الاحتجاجية لتحقيق ما هو أبعد من هذه الورقة، ومزيد من الخطوات الإصلاحية الجذرية.
الثاني: ترجمة المطالب الفضفاضة التي يرفعها المتظاهرون بلائحة مطالب واقعية تؤطّر حالة اعتراضية منظّمة، بدلاً من تلك السيولة القائمة، التي تهدّد بتحويل الحراك المحق إلى مجرّد كرنفال، يدرك القاصي والداني أنه لن يغيّر شيئاً، ما دام غير منظّم.
فالمسؤوليتان الأساسية والأكثر من أساسية تتطلبان إجراءات ملموسة، معني بها شركاء الحكم والشارع في آنٍ واحد، وعنوانها العريض هو العقلانية في الخطاب والممارسة.
بالنسبة إلى القوى السياسية، بات مؤكداً أنّه من غير المجدي أن يصبح الاقتصاد أداةً لتصفية الحسابات، على النحو الذي دفع «التيار الوطني الحر»، على سبيل المثال، إلى ركوب الموجة بطريقة مثيرة، عبّر عنها رئيسه جبران باسيل، حينما اعتبر أنّ الحراك يدعم موقفه (ضد من ؟!)، أو على النحو الذي يجعل وليد جنبلاط يراوغ، بين التصعيد والتهدئة، أو على النحو الذي يخوض فيه سمير جعجع أحدث معاركه السياسية، عبر الخروج من الحكومة، وقطف ثمار لم يستطع جنيها في الحكومة الحالية.
أما بالنسبة إلى الشارع، وإن كان لا يمكن تحميله المسؤولية بالقدر ذاته التي يتحمّلها السياسيون، فثمة ما يُجمع عليه كثير من اللبنانيين، وهو الحاجة إلى الحذر والتنبّه إلى ما يمكن أن يشوّه الحراك النظيف - بشهادة الجميع - خصوصاً أنّ من يتحيّنون الفرصة للتخريب كثر، وما التحركات المريبة التي رُصدت في اليومين الماضيين، إلّا جرس انذار لوجود أيدٍ خفية، ومن مصادر متعددة، تحاول حرف الحراك الشعبي عن مساره، تحقيقاً لأجندات مختلفة، من المؤكّد أن لا مصلحة لها بإنقاذ البلاد.
على هذا الأساس، ثمة حاجة إلى تصويب البوصلة، في اتجاه المطالب المحقة وتحصينها، بعيداً من الحملات الفوضوية التي تسعى الى «شيطنة» الجميع، تحت شعار «كلن يعني كلن» .
صحيح أنّ الناس يتألمون، ولكن السعي إلى تصوير أنّ طرفاً وحيداً هو المسؤول عن الفساد، هو خطأ قاتل.
وفي حال انفلات الشوارع، ثمة نتيجة وحيدة تُستدل بشكل موجع، وهي أنّ الكل سيصبح خاسراً.