منذ اليوم الأول لإنطلاق التحركات الشعبية في الشارع، وقعت معظم الأحزاب السياسية في حالة كبيرة من الإرباك، لا سيما تلك المشاركة في الحكومة، الأمر الذي دفعها إلى الإبتعاد عن محاولة الصدام مع الشارع، والسعي إلى "ركوب" الموجة القائمة، لكن لكل منها أهدافه ورؤيته الخاصة، التي لم تخرج عن دائرة مشروعه السياسي، رغم المخاوف التي بدأت تكبر عند الجميع من إحتمال الفشل في الرهانات.
ضمن هذا السياق، إختار حزب "القوات اللبنانية" الخروج من الحكومة، وبالتالي الإنضمام إلى المتظاهرين في الشارع، بالرغم من حالة الرفض التي اصطدم بها، ما دفعه، إلى جانب حزب "الكتائب"، إلى حصر تحركاته في المناطق المسيحيّة، على أمل أنْ ينجح من خلال ذلك في تسجيل المزيد من الأهداف في مرمى "التيار الوطني الحر"، في ظل الخلافات القائمة بين الجانبين منذ أشهر طويلة، ما دفع الكثيرين إلى الحديث عن الساحات التي يتظهّر فيها الحزب منفصلة عن تلك القائمة في مختلف المناطق اللبنانيّة.
في المقابل، لم يخرج "التيار الوطني الحر"، حتى الآن، من حالة الإرباك التي يمرّ بها، بعد أنْ حاول، في الأيام الأولى، الإستفادة من التظاهرات على أساس أنها تخدم الإقتراحات التي سبق له أن تقدم بها، لكن من الناحية العمليّة لم يخرج رئيسه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل عن دائرة الإستهداف من قبل المتظاهرين، لا بل أن هناك من بات يدعو إلى إستقالة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أيضاً، لكنه لا يزال يسعى إلى فصل التحرّكات في المناطق المسيحيّة عن باقي التحركات، عبر الإصرار على أنها سياسيّة لا مطلبيّة.
في الإطار نفسه، لم يخرج "حزب الله" عن دائرة السعي إلى الدخول على خط الحراك الشعبي، على قاعدة توجيهه نحو مسار معيّن يخدم رؤيته لما يحصل على أرض الواقع، والوجهة الأساسية التي اختارها هي مصرف لبنان، بالإضافة إلى باقي المصارف التي يعتبرها مسؤولة بشكل أساسي عن الواقع التي وصلت إليه البلاد، إلا أنّ الحزب لم ينجح، حتى الساعة، في الوصول إلى هذا الهدف، الأمر الذي يُفسّر بعض المخاوف التي بدأت تكبر لديه من حرف التحركات عن إطارها المطلبي، وهو ما حذّر منه أمينه العام السيد حسن نصرالله، في التعليق الرسمي الأولى للحزب على التحركات.
وسط هذه التوجهات التي تتضح لدى بعض الأحزاب يوماً بعد آخر، هناك أخرى لا تزال حتى الساعة لم تدرك السلوك الذي يجب أن تنتهجه، الأمر الذي يدفعها إلى إطلاق مواقف متناقضة أو الإبتعاد قدر الإمكان عن الواجهة، وهو ما ينطبق على "الحزب التقدمي الإشتراكي" بشكل رئيسي، الذي لم يقدّم رئيسه موقفاً حاسماً منذ اليوم الأول، فهو بين البقاء في الحكومة والذهاب إلى المعارضة، ومحاولة السعي إلى تدفيع رئيس "التيار الوطني الحر" الثمن الأكبر، على قاعدة أنّ ابعاده عن الواجهة هو مفتاح الحل، متجاهلاً وجوده في السلطة على مدى سنوات طويلة.
بالتزامن مع الواقع الذي يمرّ به "الإشتراكي"، يغيب عن الواجهة فريقان أساسيان في السلطة، هما "تيار المستقبل" و"حركة أمل"، فالأول هو الأكثر إحراجاً، نظراً إلى وجود رئيسه على رأس الحكومة، وبالتالي القسم الأكبر من الإتّهامات يوجّه له، في حين أن معظم جمهوره لم يعد بعيداً عن التحرّكات، لكنه يسعى إلى ألاّ يدفع الحريري ثمنها، عبر الدعوة إلى تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسته، في حين أن الثاني يسعى إلى التعامل مع الإتّهامات الكثيرة التي توجّه له، عبر التأكيد أنه غير بعيد عن المطالب التي يرفعها المتظاهرون، لا سيما أنها تفتح الباب أمام عناوين يطالب بها منذ سنوات طويلة، أبرزها الغاء الطائفيّة السياسيّة وإعتماد قانون إنتخاب على أساس لبنان دائرة واحدة.
في المحصّلة، لم تخرج الأحزاب السياسية من منطق السعي إلى إستغلال الحراك الشعبي في الشارع، للتركيز على عناوين معيّنة دون غيرها، في قناعة لديها بأن إخلاء الساحة يعني ترك الآخرين يسيطرون عليها.