لم يتقبّل الحراك الشعبي الإجراءات الحكومية التي قدّمها مجلس الوزراء على عجل في "ورقة إصلاحية"، ولا وافق على مضمون كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون. قد تكون قلّة ممن تظاهروا تقبّلت الإجراءات ومضمون الخطاب الرئاسي، لكن بقاء الإحتجاجات في شوارع عدة يعني الاّ إستعداد لقبول أي طرح، بل الإصرار على مطالب إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون إنتخابي جديد، وإستبعاد الأحزاب السياسية.
حاول حزبا "القوات" و"الكتائب" أن يمضيا في ركب موجات الإعتراض بعد الفشل في قيادة التظاهرات، لكن أغلب المتظاهرين يرفضون مشاركة أيّ حزب أو نائب موالياً كان، أو معارضاً: أين النائب بولا يعقوبيان التي رفعت شعار المعارضة؟ لماذا رفض متظاهرون مشاركة النائب أسامة سعد؟ كما ارسل غيرهما رسائل للمشاركة وتبني الحراك، قابلها المتظاهرون بالرفض المُطلق.
لكن المفاجأة كانت بإجهاض أيّ محاولة لتأليف هيئة لقيادة الحراك، مما يعني أن عدم وجود قيادات أفاد في حشد المتظاهرين، غير أنه لن يؤديَ الى تحقيق أغراضه سوى الدوران في فلك حالة الإعتراض.
ماذا بعد؟ لا يوجد سيناريوهات واضحة عند المتظاهرين حتى الآن سوى رفض أي إقتراحات، وشلّ البلد عبر إقفال الطرق، ورفع الشعارات ذاتها خلال التظاهر، بينما يتخذ الحراك إتجاهاً آخر بوجود خطابات ومشاركين آخرين سيزدادون يوماً بعد يوم، مما ولّد توترات وإشكالات وتضارباً بين المجموعات المتواجدة في وسط بيروت.
في حال تمدّدت الإشكالات الى مناطق أخرى او توسّع صداها ليُترجم في محطّات قطع الطرق، فإن البلد مقبل حتماً على فوضى مفتوحة، وخصوصاً إذا حصلت مواجهات بين فريقين، مما سيؤدي إمّا الى تدخل الجيش، أو إلى دخول لبنان في فوضى متنقلة، ستسمح بتدخل عواصم دولية.
في الساعات الماضية جرى الترويج لإمكانية "تدويل" الأزمة اللبنانية، في حال لم تستطع الدولة اللبنانية إقناع الحراك بوقف تظاهراته، ولم تُفلح في منع إقفال الطرق، لغياب الرؤية الواضحة عند كل اطراف الأزمة. لكن المعلومات افادت ان عواصم القرار الدولي لا تزال تؤيد بقاء الحكومة اللبنانية وعدم استقالتها، مع إجراء تعديلات جوهرية عليها قد تصل الى حدود عشرة وزراء، لكن تلك العواصم التي تلقّت تقارير من سفاراتها تفيد بعدم وجود مخرج دون أخذ مطالب المتظاهرين بعين الإعتبار، كانت تنتظر تجاوباً مع الورقة الإقتصادية التي قدمتها الحكومة، لكنها تفاجأت برفض المتظاهرين لكل الإجراءات الحكومية الموعودة.
لا تريد تلك العواصم ان يدخل لبنان في فوضى، ولا تزال ترصد كل المتغيرات على الساحة اللبنانية، مع إستعدادها للتعاطي الإيجابي مع اي طرح جوهري.
وبحسب المعلومات فإن سفير دولة عظمى أيّد في مجلسه طرح رئيس المجلس النيابي نبيه بري لجهة وضع قانون انتخابي جديد والتوجه لإلغاء الطائفية السياسية في الطريق نحو الدولة المدنية. هذا السفير نفسه إستند الى مشهد التظاهر في طرابلس واصفاً إياه باللافت، وأنه "يوحي بأن الحالة الإسلامية المتطرفة التي لازمت عاصمة الشمال في السنوات الماضية قد إندثرت، لإعتبارات لبنانية سياسية وإقتصادية، ولوجود متغيّرات إقليمية بعد فشل مشروع إسقاط سوريا".
لا ينفي المراقبون أن يكون لبنان قد دخل الفوضى المضبوطة نسبياً حتى الآن، في طريق الدولة اللبنانية نحو ولادة الجمهورية الثالثة. قد يكون ذلك عبر التدويل في ظل دعوات لإجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون جديد تحت الرقابة الدولية، ليضع بعدها المجلس النيابي المنتخب قواعد الجمهورية الثالثة. لكن يقول آخرون إنه امر صعب للغاية ومستبعد، لأنه يطيح بالتوازنات الطائفية في لبنان. فهل يستطيع الحراك ان يزيل الهواجس الطائفية كما اوحت التظاهرات والشعارات الوطنية؟ في حال بقي المتظاهرون على كل مساحة لبنان من دون توجهات محددة، سيضيع الحراك في فوضى المطالب الواسعة، أما اذا حدّد المتظاهرون جدول المطالب لتحقيق دولة مدنية، فلا بد من ان يرضخ الرافضون.
من هنا حتى تحقيق هذا المطلب الجوهري، تبقى الإسئلة تدور من دون جواب: ماذا يحصل خلال الفوضى؟ هل يصمد لبنان مالياً إلى حين إنتهائها؟ وهل يتدخّل المجتمع الدولي بشكل مباشر كما فعل في كوسوفو عام ١٩٩٩؟.