تأخير إستشارات التكليف ليس من باب الرفاهيّة السياسيّة، بل لأنّ إسم المُرشّح لرئاسة الحُكومة المُقبلة، يُحدّد طبيعة المرحلة المُقبلة إلى حدّ بعيد، الأمر الذي يدفع العديد من القوى لدرس خياراتها بتأنّ. والإحتمالات في هذا السياق ليست كثيرة. وأبرزها:
الإحتمال الأوّل، يتمثّل بأن تتفق الأغلبيّة النيابيّة الحالية والمُتمثّلة بالتحالف القائم بين "التيّار الوطني الحُرّ" من جهة، والكتل المَحسوبة على قوى "8 آذار" من جهة أخرى، على مُرشّح لرئاسة الحُكومة غير رئيس الحُكومة المُستقيل، سعد الحريري، بغضّ النظر عن السبب الذي يُمكن أن يؤدّي إلى هذا الخيار، أكان الفشل في التوافق سلفًا مع الحريري على تركيبة الحُكومة المُقبلة، أو رغبة بإستبعاد رئيس "تيّار المُستقبل" بسبب مُضيّه قُدمًا في خيار الإستقالة على الرغم من مُعارضة كل من "الثنائي الشيعي" و"التيّار الوطني الحُرّ" لهذا الأمر. وعندها لا تعود هويّة المُرشّح السنّي لرئاسة الحُكومة مُهمّة، لأنّ تركيبة الحُكومة ستكون خالية على الأرجح من أيّ وزير مَحسوب على كل من "تيّار المُستقبل" و"القوات اللبنانيّة" و"الحزب التقدمي الإشتراكي"، وسيتمّ تشكيلها خلال فترة زمنيّة قصيرة جدًا. والحُكومة المُقبلة ستكون في حال إعتماد الأكثريّة النيابيّة هذا الخيار، حُكومة مُنسجمة في ما بين أعضائها، وحُكومة طليقة الحركة أكثر بسبب خلوّها من أي مُعارضة داخليّة، لكنّها ستتعرّض في المُقابل لمُعارضة شرسة من خارج السُلطة التنفيذيّة، من قبل العديد من الأحزاب التي كانت مُنضوية في السابق تحت جناح قوى "14 آذار". وحُكومة المُواجهة المُحتملة، والتي تفتقر لأي توازن سياسي على المُستوى الداخلي، ستكون مَصبوغة أكثر بنُفوذ "حزب الله" السياسي، الأمر الذي قد يُعرّضها لضُغوط خليجيّة ولعُقوبات أميركيّة كبيرة جدًا، مع كل ما لهذا الأمر من إنعكاسات سلبيّة تُضاف إلى الواقع الحالي المُتأزّم في لبنان.
الإحتمال الثاني، يتمثّل بتكليف رئيس الحُكومة المُستقيل بتشكيل الحُكومة المُقبلة، بعد إتفاق مُسبق معه على طبيعة هذه الحُكومة. إشارة إلى أنّ الحريري يرغب بأن يرأس حُكومة غير سياسيّة وتضمّ شخصيّات تكنوقراط تحظى بثقة الشارع، من دون أن يقفل الباب أمام إحتمال أن يرأس حُكومة تضمّ خليطًا من الوزراء المُستقلّين المُتخصّصين من جهة، ومن الوزراء السياسيّين لكن غير المُستفزّين بشخصيّاتهم للشارع. في المُقابل، يرفض "حزب الله" و"التيّار الوطني الحُرّ" أيّ حديث عن حُكومة غير سياسيّة، وكلاهما لا يُمانع تطعيم الحُكومة المُقبلة بشخصيّات مُستقلّة وتكنوقراط، لكن بنسبة مُحدّدة. والأهمّ أنّ "الثنائي الشيعي" و"التيّار" يرفضون إشتراط إستبعاد أي وزير من قبلهم، من جانب الحريري، ويعتبرون أنّ إستبعاد وزير الخارجية في الحُكومة المُستقيلة جبران باسيل أو وزير المال في الحُكومة المُستقيلة علي حسن خليل، عن أي تركيبة حُكومية مُقبلة، يُوازيه إستبعاد الحريري نفسه عن رئاستها، بينما يعتبر "تيّار المُستقبل" أنّ رئاسة الحريري للسُلطة التنفيذيّة مُوازية لرئاسة العماد ميشال عون للجُمهوريّة ولرئاسة نبيه بري للمجلس النيابي، وليست مُوازية بالتالي لأي وزير! وبالتالي إنّ العقبات كثيرة أمام هذا الخيار، بسبب عدم التوافق على طبيعة الوزارة المُقبلة، ولا حتى على خُطوطها العريضة وعلى هويّة الشخصيّات فيها–أقلّه حتى تاريخه، لكنّ من شأن النجاح في تشكيلها بعد تذليل العقبات من أمامها، أن يمنح لبنان فرصة كبيرة للنهوض مُجدّدًا.
الإحتمال الثالث، يتمثّل بتكليف الحريري مُجدّدًا لكن من دون التوافق المُسبق سوى على خطوط عريضة جدًا، لشكل الحُكومة المُقبلة، وعندها ستستمرّ حُكومة تصريف الأعمال لفترة أطول، وستكسب مُختلف القوى السياسيّة المزيد من الوقت لجوجلة الأفكار ولإستعراض الخيارات، بهدف التوصّل مُجدّدًا إلى صيغة حُكوميّة مُتماسكة، لا تسمح بتشكيل حُكومة فاعلة لمُواجهة الأزمة الإقتصادية فحسب، ولكنها تُنقذ ما تبقّى من "التسوية الرئاسيّة" أيضًا. ومخاطر الخيار الثالث أنّه سيُبقي لبنان فترة أطول عرضة لإرتدادات الأزمة التي غرق فيها منذ 17 تشرين الأوّل الماضي، وسيكون من الصعب بعدها لملمة الوضع الحالي الذي يحتاج لسرعة في العمل، وليس لمزيد من التباطؤ، خاصة وأنّ الشارع لا يزال في حالة غليان، والأسعار ترتفع، والتضخّم المالي بات أمرًا واقعًا!.
وإنطلاقًا مِمّا سبق، يبدو أنّ الساعات والأيّام القليلة المُقبلة ستكون فاصلة في تحديد الوجهة التي سيسلكها لبنان، أكانت توافقيّة أم صداميّة، مع الداخل كما مع الخارج!.