منذ اليوم الأول للحراك الشعبي، رفض الكثيرون علنًا مَقولة "كلّن يعني كلّن"، في الوقت الذي كان كثيرون آخرون يتبنّون مقولة "كلّن ما عدا زعيمي" سرًّا! وعلى الرغم من أنّ أغلبيّة واضحة من اللبنانيّين ضاقت ذُرعًا من الوُعود غير المُنفّذة للطبقة السياسيّة، وعلى الرغم من وُجود العديد من اللبنانيّين الناقمين فعلاً على كل السياسيّين بدون إستثناء، فإنّ تطوّر الأحداث خلال الأسبوعين الماضيين، دفع بالكثير من المُتظاهرين إلى التراجع خُطوة إلى الوراء، في الوقت الذي عادت فيه قواعد شعبيّة مُختلفة إلى تقوقعاتها الطائفيّة والسياسيّة السابقة، ولوّ من دون أن تُعلن ذلك جهارًا.
بالنسبة إلى "التيار الوطني الحُرّ" الذي رفض مُناصروه توجيه السهام نحو رئيسه، وزير الخارجية في الحكومة المُستقيلة جبران باسيل، وعلى رئيس الجُمهوريّة العماد ميشال عون، فهو نزل إلى الشارع أمس تحت شعار "مسيرة أهل الوفاء"، ليُؤكّد دعمه لرئيس الجمهوريّة، وليُعلن تبنّيه كل مطالب المُتظاهرين والحرب ضُد الفساد، باعتبار أنّ الشعارات التي يرفعها المُتظاهرون هي شعاراته منذ زمن طويل، مُطالبًا بتصحيح بُوصلة الحراك الشعبي. وقد بيّنت الحُشود التي إستقطبها "التيّار" أمس، إستمرار إلتفاف مجموعات كبيرة من المُؤيّدين، خلف قيادتها المُمثّلة بالوزير باسيل، ورفض هؤلاء كل الإتهامات التي طالت هذا الأخير، وكل التهجّمات التي شُنّت على رُموز "التيّار" وعلى العهد الرئاسي.
وعلى خط الثُنائي الشيعي، فإنّ سياسة الترغيب والترهيب التي إعتمدها، أسفرت عن خُفوت صوت الإعتراضات في المناطق ذات الأغلبيّة العدديّة الشيعيّة، بالتزامن مع ظُهور تحرّكات شعبيّة للمُناصرين وللمُؤيّدين التي تعتبر أنّ التعرّض بأيّ كلام لأمين عام "حزب الله" السيّد حسن نصر الله، أو لرئيس مجلس النواب نبيه برّي، هو من الخُطوط الحمراء المَمنوع تجاوزها.
وبالنسبة إلى "تيّار المُستقبل" فإنّ إندفاع مُناصريه إلى الشوارع في مُختلف المناطق اللبنانيّة خلال أسبوعي التحرّكات الشعبيّة الغاضبة، رفضًا لكل الطبقة السياسيّة، عاد وتحوّل بعد إستقالة الحكومة إلى نوع من الرفض المذهبي لأن يكون رئيس الحكومة المُستقيل سعد الحريري "فشّة خلق"، وإلى نوع من الرفض السياسي لأن يكون "تيّار المُستقبل" هو الجهة الوحيدة التي سيتمّ إقصاؤها عن الحُكم، في مُقابل إستمرار رئيس الجمهورية الماروني ورئيس مجلس النواب الشيعي والعديد من المسؤولين والقيادات السياسيّة الآخرين في مواقعهم. ويعد هؤلاء بتصعيد المُواجهة أكثر في الأيّام المُقبلة، في حال جرى إستبعاد رئيس "المُستقبل" عن مُهمّة التكليف لتشكيل حُكومة جديدة.
وبالإنتقال إلى حزبي "القوات اللبنانيّة" و"التقدمي الإشتراكي" اللذين شارك مُناصريهما ومؤيّديهما بفعاليّة في التظاهرات والإعتصامات الشعبيّة، بخلفيّات سياسيّة تُضاف إلى المطالب العامة المرفوعة، فهما لا يزالان يستقطبان المُؤيّدين الذين لا يُمانعون بأن يشمل الإبعاد عن السُلطة الجميع، على أمل أن تتحسّن الأوضاع الإقتصاديّة والمعيشيّة، لكن الذين يرفضون كليًا في الوقت عينه أن يعود الآخرون إلى السُلطة من دون مُمثّلين عن "القوات" وعن "التقدمي"، وكأنّ مسؤولية الفشل تقع على جهة دون سواها، بحيث أنّهم يتحضّرون للعودة إلى الشارع في حال حُصول هذا الأمر.
ويُمكن القول إنّه وعلى الرغم من الإرتفاع الواضح لعدد الناقمين على السُلطة السياسيّة في لبنان ككل، بسبب سوء الأوضاع على مُختلف الصعد، وعلى الرغم من إستقطاب الشخصيّات المدنيّة أعدادًا أكبر من المؤيّدين مُقارنة بما كان عليه الوضع عشيّة الإنتخابات النيابيّة الأخيرة، فإنّ الكثير من القواعد الشعبيّة المُؤيّدة لأحزابها السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة، ما زالت عند تقوقعها–ولوّ بشكل غير مُعلن.
وفي الخُلاصة، يستطيع الناقمون على الأحزاب والتيّارات السياسيّة كافة التظاهر والإعتصام والإعتراض على الطبقة الحاكمة، لكنّ حجم هؤلاء في حال إستثناء جماعة "كلّن ما عدا زعيمي" من صُفوفهم، لا يزال محدودًا وبالتالي عاجزًا عن إحداث التغيير المَطلوب. والكلمة الفصل في هذا السياق، ستكون للإنتخابات النيابيّة المُقبلة، والتي يرفض أهل الحُكم مُجتمعين، أيّ حديث عن تقديم موعدها، مُتحجّجين بغياب التوافق على قانون إنتخابي جديد أكثر عدلاً، ما يعني أنّ فترة الإنتظار لتبيان الخط الأبيض من الخط الأسود ستطول جدًا.