لن أتعب من التذكير بالورقة الاستراتيجية التي وضعتها مجموعة من مراكز الأبحاث الأمريكية في عام 1996 بعنوان: " الاختراق النظيف. استراتيجية جديدة للسيطرة على المنطقة “. في هذه الورقة اتفقت مراكز الأبحاث على أن الاستراتيجيات القديمة للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط لم تعد مجدية ولم يعد ضرورياً أن نرسل جيوشاً وندفع تكاليفها الباهظة، ولكن البديل سيكون العمل على اكتشاف العناصر التي تؤيدنا في هذه المجتمعات والمخلصة لنا وتمويلها والاعتماد عليها لإحداث التغييرات التي نريد والتي تخدم مصالحنا أولاً وأخيراً. ومع أني ترجمت هذه الورقة ووزعتها على أكبر نطاق ممكن فإني أرى الأسئلة التي تطرح اليوم في منطقتنا بعيدة كلّ البعد عن مفاهيم واستراتيجيات مكتوبة ومنشورة وواضحة وضوح الشمس، ومازال تحليل ما يجري على أرض الواقع يتعرض لأسئلة سطحية وتفسيرات ساذجة لا تتناسب أبداً مع حجم المعلن من الاستراتيجيات والأبحاث التي ترسم الخطط للسيطرة على فضاء الشرق الأوسط برمته وتحويله إلى فضاء تابع كلياً للإرادة الغربية ولكن من خلال أدوات محليّة. وعلّ العامل المستجدّ في الموضوع على هذه الاستراتيجية اليوم وبعد عقدين من الزمن هو مواجهة الصين وتقويض كلّ الخطوات التي يمكن أن تجعل من الصين أو روسيا بديلاً للحضور الغربي في منطقة الشرق الأوسط. وعلّ الحرب على سورية فاقمت من أهمية تجديد وتطوير استراتيجية الاختراق النظيف لأنّ أكثر ما أقلق العدوّ الصهيوني وربيبته الولايات المتحدة الأمريكية من نتائج الحرب على سورية هو ذلك التحالف السياسي بين سورية وروسيا وإيران وذلك الامتداد الجغرافي المقاوم بين إيران والعراق وسورية ولبنان. وقد نشرت مراكز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي أكثر من دراسة في هذا الصدد حذّرت بها من أن يرسي هذا المحور قواعده الجغرافية العسكرية والسياسية والاقتصادية وأن هذا الأمر سيشكل مشكلة كبرى بالنسبة للكيان الغاصب لأنه قد لا يتمكن بعد اليوم من شن حرب على أي من هذه القوى والبلدان دون توقع انخراط المحور بكلّ مكوناته في هذه الحرب. وقد أعلنوا في هذه الدراسات أن العنصرين الأساسيين اللذين فاجآهم في هذه الحرب على سورية ولم يحسبوا لهما حساباً أبداً هما: انخراط الطيران الروسي مع الجيش العربي السوري في هذه الحرب، ودخول حزب الله بمقاتليه ميدان المعركة. كانت هذه سابقة للعدوّ صدمته وأرعبته ودفعته للتفكير بآليات جديدة يحاول أن يضمن من خلالها عدم قدرة أعضاء هذا المحور على التعاضد والعمل سوياً في المستقبل. وكان الإجراء الذي اتخذه الأميركي منذ ما يقارب السنتين فاضحاً حين أشرف الجيش السوري وحلفاؤه على تحرير منطقة التنف من الإرهاب فقام الطيران الأميركي بقصف جيشنا وحلفائنا ليسمح للإرهابيين استمرار التواجد ويُبقي على نقطة التواصل الأهم بين العراق وسورية تحت سيطرته، وحين اتفقت الحكومة السورية والعراقية على فتح معبر البوكمال منذ أكثر من سنة، بدأت ضغوط الولايات المتحدة لتمنع هذا التواصل بأي ثمن كان. ولهذا تبقي الولايات المتحدة بعض قواتها في منطقة التنف وحول منابع النفط السورية لسببين أساسيين ألا وهما: منع التواصل الجغرافي بين سورية والعراق والذي يشكّل انفراجاً اقتصادياً وسياسياَ ومجتمعياً لكلا البلدين والإبقاء على حرمانهما من عوامل الانتعاش الاقتصادي، وأيضاً سلب سورية ثروتها الطبيعية من آبار النفط في قرصنة دولية تؤكد أن البلد الذي يُفترض أنه يقود العالم يمارس شريعة الغاب دون خجل أو استحياء معتمدأ على البلطجة من خلال قوته العسكرية القادرة على التصدي لمن يعترض لصوصيته وسرقاته ويعترض على جرائمه بحق شعب دفع ثمناً باهظاً للقضاء على الإرهاب وتحرير موارده الاقتصادية فقط كي يكتشف أن الجيش الأميركي قرّر أن يكمل مهمة الإرهابيين من خلال سلب سورية مواردها الطبيعية وحرمان الشعب السوري من ثروته الطبيعية. والأمر الذي ساهم أيضاً في ضرورة تطوير هذه الاستراتيجية من وجهة نظر الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة هو ما قامت به الحكومة العراقية منذ وقت قريب بتوقيع اتفاق مع الصين بقيمة خمسمئة مليار دولار وأن الدفع سيكون بالنفط العراقي وليس بالدولار، وهنا دق ناقوس الخطر الأميركي خوفاً من أن يتجه العراق إلى الصين بقوتها الاقتصادية وأن يتمّ إخراج الدولار من المعادلة في العلاقة الاقتصادية الصينية العربية. كما أن الرئيس عادل عبد المهدي قد رفض صفقة القرن وانتقد الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين وأيّد حق العودة للفلسطينيين. ولا شك أن الأمريكي يعلم أن هذه الحكومة العراقية هي الحكومة الأولى المؤمنة بالتنسيق والتضامن العربي وفتح قنوات التواصل مع الأشقاء والأصدقاء؛ الأمر الذي يقضّ مضاجع المحتل الصهيوني ويدقّ ناقوس الخطر لديه.
إذاً ودون أن نتمكن من الاطلاع على الاستراتيجيات الجديدة التي وضعوها خلال وبعد الحرب على سورية يمكن لنا أن نتوقع أن هذه الاستراتيجيات تعتمد على خلق فتنة بين مكونات الطائفة الواحدة في العراق، وفتنة في لبنان وأخرى في الجزائر، ولا نعلم أين تظهر الفتنة غداً. ولكنّ المفهوم أن الأساس لكلّ هذه التحركات والفتن هو استخدام غضب الناس واستثمار نقمتهم على الفساد والتقصير والإهمال ونقص الخدمات لتحقيق أهداف سياسية تعيد هذه البلدان مئة سنة إلى الوراء، ومن خلال إشغالها بأزمات لا تهدف أبداً إلى محاربة الفساد أو معالجة التقصير أو تحسين الخدمات والوضع المعيشي للشعوب المعنية بل تهدف بدلاً من ذلك إلى ضرب أي عامل قوة تمكّنت هذه البلدان من استجماعه رغم الحروب والفتن التي فرضت عليها وإعادتها إلى المربع الأول بحيث لا تجد سبلاً إلى إرساء أسس حكم مؤسساتي يطوّر في آليات عمله ويركّز على دخول السباق في ميدان العلم والمعرفة والنموّ والازدهار.
العامل الأساسي الذي ساعد هؤلاء إلى النفاذ إلى الساحات وجمع الشباب والشابات الذين يقولون كلمة حق يريد أعداؤهم بها باطلاً، هو غياب النخب وانحدار المستوى التعليمي والوضع الاقتصادي المتردي والذي كان نتيجةً، ولو في جزء منه، لاستمرار المحاربة والضغوط. هؤلاء الشباب والشابات الهائمون على وجوههم في ساحات مدن أكثر من بلد عربي لا يعرفون الخطة الموضوعة لحراكهم ولا الأهداف المرسومة لخروجهم إلى الساحات وتدمير بعض الذي تمكنت الحكومات من تحقيقه، وهذا ليس دفاعاً عن الحكومات ولكنه دفاع عن الأوطان ومستقبل هذه الأوطان. هل ما نشهده اليوم هو أيضاً نتيجة تردّي المستوى التعليمي في كلّ الأقطار العربية بحيث نشأ جيل غير محصّن وغير قادر على فهم الدروس واستخلاص العبر؟ أم أن " الاختراق النظيف" قد شكّل قيادات سرية في كلّ مكان قادرة على الإقناع وتمويل الحراك وسوقه إلى المكان الذي يضمن استمرار الهيمنة الاستعمارية على هذه المنطقة وتقطيع أوصالها جغرافياً واقتصادياً ودفعها إلى مزيد من التهميش؟ ولا شك أن ما صرّح به العدو الإسرائيلي عن الحراك في لبنان بأن ما يجري هناك "رائع" ينطبق جداً على تقييمه للحراك في العراق والجزائر وربما في بلدان أخرى. وهنا نعود إلى ما قاله السيد الرئيس بشار الأسد في مقابلته الأخيرة عن الخونة والذي ينطبق على حالات كثيرة خارج سورية أيضاً حيث قال: "عندما يكون السوري وطنياً ولا تكون الخيانة مجرد وجهة نظر كخلاف على أي موضوع سياسي سيخرج الأميركي لوحده". الخيانة ليست مجرد وجهة نظر والتاريخ العربي مليء بالكوارث التي سببتها الخيانة، فمتى نركز على تحصين البلدان لوضع حدّ للاختراق غير النظيف؟