نؤكد دائما بان الحراك الشعبي الذي انفجر في لبنان في 17 تشرين اول الجاري كان نتيجة ظلم اجتماعي وفساد عارم نخر السلطة التي بلغت من السوء وضعا لا يقدر على وصفه أحد. لقد كان هذا الانفجار نتيجة حتمية لواقع مزري تكون منذ عقود ثلاثة منذ العمل باتفاق الطائف. ولكن ورغم عظيم مشروعية التحرك واحقية المطالب الأساسية المرفوعة، فان الخشية التي رافقت هذا التحرك لم تكن بسيطة، خاصة وان هناك مشاهد في الإقليم يثير النظر اليها القلق الشديد من الاستثمار الخارجي الخبيث ومن قوى الفساد الداخلية.
نعم في ظل هذا اندلعت شرارة الانفجار الشعبي في لبنان وظهر الحراك في ساعاته الأولى انه مطلبي معيشي يسعى لرفع الظلم الاجتماعي عن الناس، شعور جعل الشعب كله يدعم الحراك دعما لا لبس فيه، اما من هم في السلطة فقد تفاوتت مواقفهم منه بين معلن ومكتوم ولكن أحدا منهم لم يجرؤ على المعارضة والرفض، وكثير منهم ايدوه بما في ذلك من هو مكون أساسي من مكونات الفساد في الدولة منذ ثلاثة عقود دون انقطاع لا بل بلغت الوقاحة عند بعض كبار الفاسدين للادعاء بأنهم هم رواد هذه المطالب.
بعد اليومين الاولين بدا شيء من الانحراف يضرب ساحات الحراك تمثل ببعض هتافات و مواقف بعيدة عن الأهداف المعيشية الحياتية الشعبية التي أخرجت الناس للشوارع ، فظهرت اهداف سياسية و نوايا خبيثة و طرحت مواقف لا تمت بصلة الى الأهداف الشريفة للحراك ، و بدت واضحة محاولات الاستفزاز و الاستدراج الى المواجهات بشكل جلي عبر موجات الشتائم و السباب و قطع الطرقات وانتهاك حقوق المواطنين و المارة ، و هنا باتت واضحة النية الحقيقية من التدخل الأجنبي التي كثيرا ما لوحت بالفوضى و تعمل من اجلها لتحقيق اهداف استراتيجية كبرى لا صلة لها بما خرج الناس من اجله و بتحديد اكثر ظهر واضحا ان المستثمر الخفي للحراك يريد ان يستعيد مجريات فترة 20042006 التي بدأت بالقرار 1559 و انتهت بحرب 2006 مرورا بقتل رفيق الحريري و تسلم الفريق المناوئ للمقاومة و محورها السلطة .
لقد تأكد لأصحاب النظر و الفهم الموضوعي ، ان هناك استهداف للمقاومة و بيئتها عبر فوضى عارمة تسقطها في وحول الداخل ، و هي خطة طالما تحدثنا عنها في السنوات العشر الماضة و كثيرا ما ذكرنا ان شرط إسرائيل للحرب القادمة ضد المقاومة هو فتنة داخلية تغرق المقاومة و تأتي إسرائيل لتلتقط اشلاءها ، هذه الحقيقة التي بدأت خيوطها تمسك من قبل بعض من في الحرك جعلت احجام الجموع تتراجع و افرادها يقولون "جئنا لمطالب حياتية و لم نخرج لخيانة المقاومة " و لم توافق الأكثرية الساحقة في الساحات على محاولات "التقرب من إسرائيل" او التهديد "بالفصل السابع: او" استصدار قرار" اشد وادهى من القرار 1559 .
في غمرة هذه الوقائع الحقائق والمنظورة والمستنتجة ،وبدل ان ينصرف الحريري و حكومته الى تنفيذ بنود الورقة الإصلاحية التي اعتمدتها الحكومة في الأيام الأولى للحراك و التي حملت شيئا جيدا على الصعيد الأمني و المالي و الإداري من شانه ان يحدث صدمة إيجابية ورغم الدعم الكبير الذي قدم لرئيس الحكومة من رئيس الجمهورية و تياره و الثنائي الشيعي ،و رغم تحذيره من الاقدام على خطوة ناقصة ، قدم الحريري استقالته مدفوعا اليها من قبل القيادة الخفية للحراك و في ذهنه سيناريو مبسط يعقب الاستقالة يقوم على الظن بان رئيس الجمهورية سيجري ضمن 24 ساعة استشارات نيابية ملزمة تعيد الحريري الى رئاسة لحكومة التي سيشكلها وفقا لشروطه – شروط القوة الخفية - و فيها اخراج حزب الله و جبران باسيل منها استكمالا لسياسة حصار الحزب و معاقبة باسيل على مواقفه من سورية و من اللاجئين . أي باختصار احداث انقلاب ضد الأكثرية النيابية القائمة وجعل ممثل الأقلية يبتز ويتحكم بقرارها.
في مقابل ذلك كان لرئيس الجمهورية سلوك اخر تمثل بالتريث في اجراء الاستشارات الرسمية واستباقها بمشاورات تمهيدية من اجل تسهيل التشكيل ولعدم الوقوع رهينة ابتزاز ومماطلة الحريري وتسويفه في التشكيل. واستفاد الرئيس من خلو الدستور من تحديد مهلة ملزمة له للبدء بالاستشارات لتكليف الشخصية التي يعهد اليها التشكيل، كخلوه أيضا من تحديد مهلة تحدد لرئيس الحكومة لإنجاز التشكيل. وحرصا على إبقاء زمام المبادرة بيده فقد قاد رئيس الجمهورية عملية المشاورات التمهيدية التي تمكنه وقبل التكليف من الاتفاق مع القوى الفاعلة على شكل الحكومة وطبيعتها واشخاصها قبل ان يعين رئيسها ونرى ان هذا الامر سيشكل سابقة دستورية يبنى عليها من شانها ان تعوض شيئا مما خسرته رئاسة الجمهورية في الطائف من صلاحيات في تشكيل الحكومات.
في ظل هذه المشهد دخلت إسرائيل على الخط وارسلت طائرة استطلاع الى الجنوب فوق نقطة اعتصام في النبطية، فكان رد المقاومة ضدها باستعمال منظومة الدفاع الجوي التي تملكها، استعمال يكاد يكون في ظرفه وطبيعته الأول من نوعه ما أضاف الى المشهد عناصر جديدة ومكن من فهم أمور كاد البعض ان يتجاوزها.
باستقالة الحكومة وما تبعها من مواقف وردود فعل الأطراف تظاهرا او احجاما او قطع طرق تأييدا او احتجاجا انتهت الجولة الأولى من المواجهة القائمة في لبنان (مواجهة لا نراها قصيرة) واسدلت الستارة على مشهد فيه من العناصر ما يعتبره البعض نصرا له ويبنى عليه ليتابع الهجوم والدفاع وفي هذا السياق نسجل:
1) سقوط الحكومة و الدخول في فراغ السلطة التنفيذية ،و تجميد العمل بالورقة الإصلاحية و الحؤول دون إعطاء المحتجين شيئا يسكن " ثورتهم " ما يجعل محفزات الحراك و اللجوء الى الشارع قائمة و فاعلة وقابلة للتطوير للحد الأقصى واعتبار الامر بمثابة انتصار للحراك يدفعه لطلب المزيد ، اما القوة الخفية و القيادة الحقيقية له فقد رات في الاستقالة اجتياز عقبة امام إخراج حزب الله و جبران باسيل من الحكومة عبر طرح حكومة تكنوقراط او تكنو سياسية لا تشمل باسيل او ممثلين لحزب الله .لكن تصرف رئاسة لجمهورية و ادارتها للملف بشكل دستوري ذكي جعلت من هذا الظن وهما و فتحت المجال على احتمال انقلاب الامر ضد من صنعه و بالتالي ليس اكيدا بعد ان ينجح الحريري في اقصاء باسيل و حزب الله عن الحكومة بل قد يكون العكس هو الصحيح .
2) إعادة تشكل القوى والحلفاء والجبهات الداخلية المتواجهة وانكشاف امر بعض من في السلطة من حيث عمله لصالح الحراك بجمهوره او علاقته بالقوة الخفية التي تحركه نحو الأهداف الاستراتيجية الموضوعة للحراك.
3) امساك المقاومة بشارعها و بيئتها ، وتفلتها من محاولات الاستدراج الى الداخل و توجيه المقاومة رسالة هامة في توقيتها لإسرائيل و من معها في الداخل و الخارج بان الحدث الداخلي لا يؤثر على المقاومة بوجه إسرائيل و قد كان صاعقا لإسرائيل و لكل من خلفها ما قاله السيد حسن نصرالله و ساقه من توصيف لقدرات المقاومة بانها اليوم "قوية جدا جدا " و انها كيان منفصل مستقل عما حوله لا يتأثر بعارض الطارئ محلي او إقليمي و بان قدراته لم تهتز بما يجري في الداخل و في ذلك تتسفهي لمقولة حرب أهلية تغرق المقاومة فتجعل إسرائيل قادرة على الانتصار عليها .
4) نجاح التيار الوطني في اظهار امتلاكه لشارع كبير وراقي والتأكيد على ان محاولات عزل التيار او استبعاد رئيسه هي محاولات فاشلة ولا فرصة للانقلاب وتعطيل نتائج الانتخابات، وعلى المقلب الاخر ظهر الفريق المناهض الذي اعيد تركيبه وتشكيله بانه فريث شتائم قطاع طرق منتهك الكرامات والحقوق وفي هذا الامر الكثير من السلبيات التي يبنى عليها مستقبلا.
وبالمحصلة نستطيع القول بان المقاومة وفريقها وبيئتها استطاعت ان تحتوي الموجة الأولى مما استهدفها دون ان تتنكر للمطالب المحقة المتظاهرين ويبقى على المقاومة تفعيل حضورها لتقيم فرزا واضحا بين الحرب التي تشن ضد المقاومة و التي تتستر بالحراك حيث يجب كشفها و فضح من ينفذها لإجهاضها وعلى عادتها الذهاب بالمواجهة وبشتى الوسائل الى الحدود القصوى و بين حركة احتجاج تنادي بمطالب حياتية ومالية مشروعة فلا تكتفي بتأييدها بل تتصدى الى قيادة هذه الحركة في كل الميادين من الشارع الى السلطة والحكومة وهنا يجب على المقاومة ان لا ترضخ للابتزاز وتفرط بالأكثرية التي تملكها في مجلس النواب و تخرج من الحكومة. بل عليها حفظ موقعها في السلطة وفي الشارع مع حلفائها لقيادة الحرب على الفساد وإعطاء كل ذي حق حقه.