بين من يَعتبر الحراك المُستمرّ في الشارع إنتفاضة شعبيّة على الواقع المرير القائم منذ عُقود في لبنان، ومن يَعتبر ما يحصل عبارة عن خُطّة سياسيّة مُنظّمة ومَدروسة، تُحرّكها بعض الأحزاب المحليّة والجهات الخارجيّة... فارق شاسع، علمًا أنّ الثمن الأعلى يدفعه اللبنانيّون جميعًا! فما هي الخلفيّات السياسيّة الحقيقيّة لما يحدث حاليًا؟.
القراءة المَوضوعيّة تؤكّد بما لا يقبل الشكّ إنتشار الغضب العارم في صُفوف المُواطنين، من كل ما آلت إليه الأمور على مُختلف الصُعد الإقتصاديّة والماليّة، وبطبيعة الحال الحياتيّة والمعيشيّة. لكنّ هذا الغضب الذي تُرجم نزولاً إلى الشوارع وتجمّعًا في الساحات، لا يُلغي سعي مُختلف الجهات السياسيّة لمُحاولة إستثمار ما حصل ويحصل، ولمُحاولة توظيفه في الصراع السياسي القائم في لبنان منذ العام 2005 حتى تاريخه. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: حزب "القوّات اللبنانيّة" يريد إفشال ما تبقى من العهد الرئاسي، بعد أن جرى تهميش دوره وحجبه عن كل التعيينات وعدم إشراكه في القرارات السياسيّة الأساسيّة، علمًا أنّه كان يأمل أن تقوده "التسوية الرئاسيّة" إلى ثنائيّة في الحُكم مع "التيّار الوطني الحُرّ" مُشابهة للثنائيّة الشيعيّة، وهو ما لم يحصل منذ لحظة تشكيل الحُكومة حتى اليوم. وبالتالي يسعى حزب "القوات" حاليًا إلى ردّ الصاع صاعين بكل ما أوتي من قُوّة، عن طريق توظيف الحراك الشعبي المُطالب بحكومة مُستقلّة خالية من كل رموز الطبقة السياسيّة، لإصابة عُصفورين بحجر واحد: الأوّل إخراج "التيّار" وخُصوصًا رئيسه الوزير جبران باسيل من السُلطة، والثاني إخراج "حزب الله" من الحُكومة.
ثانيًا: رئيس "تيّار المُستقبل" الذي ضاق ذرعًا من تحجيم دوره على رأس السُلطة التنفيذيّة، ومن مُشاركة رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" في كل شاردة وواردة، يسعى بدوره حاليًا إلى توظيف نقمة الناس على السُلطة بشكل عام، للعودة إلى الحُكم على رأس حُكومة خالية من قسم كبير من السياسيّين الذين لا يحظون بتأييد سوى قلّة مُنضوية في صُفوف الأحزاب والتيّارات التي يُمثّلونها. وهو يرفض بالتالي كل الإقتراحات التي تتحدّث عن حُكومة سياسيّة تقليديّة، مُطعّمة ببعض الوجوه الحزبيّة غير المعروفة من باب التمويه، وبقلّة من شخصيّات المُجتمع المدني في مُحاولة لتنفيس الشارع، من دون الإستجابة جديًا لمطالب المُنتفضين الساعين للوُصول إلى مُفهوم جديد في الحُكم وفي التعاطي مع المشاكل التي يرزح تحتها لبنان. ويُحاول رئيس الحكومة المُستقيل سعد الحريري العودة إلى السُلطة كرئيس للحكومة، لكن بشرط أن تستجيب الحُكومة لمطالب الحراك الشعبي، باعتبار أنّ أيّ خيار آخر سيجعلها عاجزة عن العمل، ولن يُوقف ما يجري على الأرض.
ثالثًا: "الحزب التقدّمي الإشتراكي" الذي يعمل على مُواجهة مُحاولات تهميشه منذ بداية العهد، من قبل "التيّار" وقوى حليفة لهذا الأخير ضُمن البيئة الدُرزيّة، يضغط خلف "المُستقبل" وعلى خط مُواز مع "القوات"، لإخراج وزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل من الحُكم، وهو يضغط بدوره لإعادة دوره السياسيّ الذي جرى ضربه بالعمق، خلال العهد الرئاسي الحالي.
رابعًا: تُوجد قوى سياسيّة أخرى، تعمل على مدّ الحراك الشعبي بالدعم الخفي، ومنها حزب "الكتائب اللبنانيّة" الذي دوره الإعلامي كمُعارض للسُلطة يفوق حجم تأثيره في السُلطة عُمومًا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى قوى أخرى لم تنجح في إيجاد موقع لها ضُمن التركيبة السياسيّة الحالية، على غرار "الجماعة الإسلاميّة" و"الحزب الشيوعي"، إلخ.
خامسًا: تُوجد قوى سياسيّة ناشئة على غرار حزب "سبعة"، وقوى سياسيّة تُحاول العودة إلى الساحة على غرار "الكتلة الوطنيّة"، على سبيل المثال لا الحصر، تُحاول إيجاد موطئ قدم لها ضُمن اللعبة السياسيّة، عبر تبنّي مطالب الحراك الشعبي كاملة، ومُحاولة التقدّم من الناس من موقع مُغاير للصورة التقليديّة والنمطيّة الراسخة في أذهان المُواطنين بشأن الأحزاب عُمومًا.
سادسًا: تعمل جهات سياسيّة دَوليّة-خارجيّة، على إستغلال النقمة الشعبيّة المُتفاقمة في لبنان، للضغط على الجيش والقوى الأمنيّة لمنع قمع المُتظاهرين، وللضغط أيضًا على القوى السياسيّة المُختلفة في مُحاولة لإخراج "حزب الله" من أي حُكومة مُقبلة.
إستغلال مُضاد للحراك...
في مُقابل المُحاولات الحزبيّة لإستغلال الحراك، بهدف التخلّص من "التيّار" و"الحزب"، أو لإضعافهما على الأقلّ، تُوجد مُحاولات من جهات أخرى، لتوظيف الحراك الشعبي أيضًا، لكن طبعًا ليس عن طريق قطع الطُرقات، بل عبر التخلّص من خُصوم سياسيّين، تارة بعنوان مُحاربة الفساد ومُحاسبة الفاسدين، وطورًا بعنوان إزالة الإعتراضات من داخل الحُكومة لتمرير المشاريع الإصلاحيّة نظريًا، ولتسهيل إدارة الحُكم بقبضة حديديّة عمليًا. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: "التيّار الوطني الحُرّ" يُحاول الإستفادة من مُسارعة "القوات" إلى الإستقالة من الحُكومة، ومن رفض "الإشتراكي" العودة إلى حُكومة جنبًا إلى جنب معه، لإخراج كل من "القوات" و"الإشتراكي" كليًا من السُلطة، ليتحوّل مع حلفائه إلى الطرف الأقوى بشكل تام ضُمن حُكومة خالية من مُعارضة داخليّة. وفي السياق عينه، يُحاول "التيّار" المُساومة مع "المُستقبل" لتكون عودة هذا الأخير إلى السُلطة مَشروطة بمزيد من التفاهمات، مُفاوضًا من موقع قُوّة أكبر ممّا كان عليه الأمر عشيّة "التسوية الرئاسيّة" قبل ثلاث سنوات. ويُجاهر "التيّار" بأنّ كل شعارات الحراك الشعبي هي شعاراته، وهو يُطلق اليوم العنوان تلو العنوان، لتأكيد وُقوفه في صفّ مُحاربة الفساد والفاسدين، بحيث يعمل على توظيف النقمة الشعبيّة لتوجيهها نحو جهات سياسيّة عدّة كانت في السُلطة قبل إنضمامه إليها، في محاولة لإستهداف خُصومه، مع الحرص على تحييد شخصيّاته ومسؤوليه.
ثانيًا: "الثنائي الشيعي" يعمل جاهدًا على إعادة الحياة الطبيعيّة إلى لبنان، لأنّ "حزب الله" يعتبر أن نجاح هذا الحراك في تطبيق مقولة "كلّن يعني كلّن"، يعني عمليًا إخراجه من السُلطة السياسيّة، في الوقت الذي يُواجه "الحزب" فيه معركة إقليميّة ودَولية شرسة، لتحجيم دوره الأمني والسياسي المحلّي والإقليمي، ولإخضاعه إقتصاديًا وماليًا عن طريق العُقوبات. أمّا "حركة أمل" فهي بدورها تريد إنهاء الحراك بأسرع وقت، لأنّها تُعتبر مُشاركًا أساسيًا في منظومة الحُكم والسُلطة بكامل تفاصيلها ومشاريعها، منذ مطلع التسعينات حتى تاريخه. وبالتالي، يُعارض "الثنائي الشيعي"–كما "التيار الوطني" الخروج من السُلطة، وهم يعملون على التخلّص من قطع الطُرقات لإعادة الحياة الطبيعيّة إلى لبنان، بالتزامن مع إستغلال تظاهرات الساحات، لتوجيهها على خُصوم لهم في السياسة، وعلى شخصيّات كانت مَحسوبة عليهم، قبل أن تُسبب لهم المتاعب.
في الختام، الحراك الشعبي لا يقدر وحده على قلب مَنظومة سياسيّة مُتجذّرة في السُلطة، وتملك حيثيّات شعبيّة متينة، ناهيك عن إمتلاك بعض الجهات فيها للسلاح. ودُخول الأحزاب إلى الحراك، يعني تحريف مساره وأهدافه، ويعني تلقائيًا توظيفه في صراع سياسي قديم–جديد. والخُلاصة أنّ ما حدث ويحدث في لبنان لا يُمكن أن يأتي بنتائج إيجابيّة، لأنّ الثورة إمّا تكون كاملة أو لا تكون، حيث لا مكان لنصف ثورة–كما يحصل حاليًا!.