لقد آنَ الآوان لثورتي. وثورتي هي ثورةٌ لا على الثائرين الأنقياء، طريّي العود ونَظيفي السّيرة والكفّ، بل على الذين أوصلوني وأوصلوا كلَّ شريف ونظيف وَوَطنيّ، لا بل وَطني لبنان إلى حافّة الإنهيار. ومنذ طفولتي، وأنا على يقين من أنهم سَيَصلون به إلى هذه اللحظة المأساوية، لأنّني لطالما كنت أقارن ما بين لُبناني النّظيف الذي ورثته عن أبي وأمّي، ولبنانهم الذي ورثوه من مكان آخر، والقارىء يعرف مِن مَن وعَن مَن!.
والثائرون الذين أثور عليهم، هم الذين كانوا البارحة وما قبل البارحة وما قبل... وما قبل... وعلى مدى عمري كلّه، وأنا اليوم في الخمسين، ثائرين يملأون الشوارع هُتافاً وضجيجاً وصراخاً وجعجعةً لزُعمائهم، ولا يزالون! وهم الذين أنتجوا وأفرزوا مَن يثورون عليهم اليوم، ومَن يلعنونهم اليوم، ومَن أعادوهم إلى السّلطة، لا مرّة ومرّتين وثلاث مرّات، بل على مدى رهطٍ من الزّمن. وهم الذين أورثوا أبناءهم وبناتهم محبّة وعبادة الزّعيم-الإله، وأركبوه على أكتافهم وأكتاف أبنائهم، فضرس الأبناء من حصرم آبائهم.
فكم من تَقارُعٍ وتَقارُعٍ حصل بسبب الزّعيم-الإله؟ وكم من بريء سقط في سبيل الزّعيم أو البيك أو الشّيخ، وكم من دماء بريئة أُزهقَت؟ وكم من شابٍ وشابّة هاجر بسبب الهيمنات والهمجيّات الحزبيّة والإقطاعيّة والراديكاليّة والدغمائيّة؟ وكم هي كبيرةٌ المعاناة التي رافقتنا جميعاً منذ صغرنا، ولا تزال إلى الآن، بسبب مجتمعٍ آثر عبادة الزّعيم على عبادة الله، فهتف للزعيم بعد الله، ولكن قلبه لم يكن لله ولا مع الله، بل للزعيم ومع الزّعيم، فوصلنا إلى هذا الآن السيء؟.
أُريد اليوم أن أشتكي لله على هؤلاء الثوّار الذين يتّهمون الآخرين بِما سبّبوه هُم، وليست لديهم الجُرأة على اتّهام أنفسِهم، وحسبيّ الله وحده! فهؤلاء هُم مَن ساهموا في إنتاج، مِنَ الطبقة الحاكمة، مَن ركِب ظهور العباد والبلاد ونهب المال العامّ. وهُم بالتالي مَن أيّدوا نهجها. وهُم مَن تغاضوا عن نهبها للمال العامّ، باسم الدّين والتطيّف والمصالح الشخصيّة، ووضعوا الخطوط الحمراء أمام كلّ مُساءلة! وهم مَن استغلّوا المواقع العامّة وسمحوا لأيديهم بـأن تنهب المال العام. لأنّهم هُم مَن يرأس مؤسّسات الدولة ومَن يعمل فيها، ومَن يُحرّك مفاصلِها ويسري في شرايينها، ومَن يستغلّها لمصلحته الخاصّة، ويتسلّط من خلالها، على صغار الناس الذي لا حول لهم ولا قوّة. نعم، كم من موظّف وموظف من الذين يثورون الآن، وربّما لأنّ مواردهم اللاشرعية قد شحّت، أساؤوا إلى المواطنين وشَحَّذوهم حقوقهم؟ إسألوا أيّاً كان يُجيبكم، ويُشير بالإصبَع إلى السّارق الكبير والسّارق الصغير في هذه المؤسّسات.
إذاً، ليس الفساد في الطبقة السياسيّة وحسب، بل هو يُعشّش أيضاً في صِغار المواطنين وكبارهم وفي كثير من الثائرين. فالفاسدون هُم الموظّفون الذين تقاعسوا عن القيام بواجباتهم الوظيفيّة، ومنهم المرتشون الذين استغلّوا نفوذهم المادّي والمعنوي ليتحكّموا برقاب الناس وينهبوا أموالهم. هُم مفاتيح الحملات الإنتخابيّة الذين اشتروا وباعوا أُناساً لزعمائهم. هُم المُهرّبون الذين هرّبوا البضائع عبر المعابر الشرعيّة واللاشرعيّة، أو على الأقلّ المُستفيدون من المُهرَّب والمُهرِّبين. هُم مُعقّبو المعاملات ومُخلّصو البضائع من المُحتالين، الذين زوّروا البيانات وتحايلوا على خزينة الدّولة والقانون. هم المُنتفعون الذين طلبوا تراخيص للأسلحة وللزجاج الداكن لسياراتهم، واستماتوا للحصول على أرقام مميّزة لسياراتهم وهواتفكم، ولو بطرق مُلتوية. هُم المُدمّرون الذين خرّبوا البيئة ولوّثوها ورموا نفاياتهم وأعقاب سجائرهم من نوافذ سيّاراتهم. هُم تُجّار العِلم الذين افتتحوا جامعات ركّكت العِلم وباعت الشهادات العليا. هُم أصحاب المدارس الطمّاعون الذين رفعوا الأقساط المدرسيّة واستبدّوا بالعائلات الفقيرة. هُم المُتعهّدون الذين شاركوا اللصوص الكبار في سرقة المشاريع الكبيرة ونفّذوها بشكلٍ سيّء. هُم القُضاة الذين زوّروا الأحكام خوفاً على مواقعكم، ومن الزّعيم الذي تملّقوه ليأتي بهم إلى مواقعهم. هُم المُتحزّبون الذين علّموا أبناءهم وبناتهم الكراهية، ونشّأوهم على عبادة الزعيم، فتقاتلوا في الجامعات والشوارع من أجله، ولوّثوا نفوسهم بالحقد، والجامعات والشوارع بالصور والشعارات القبيحة. هُم الصيارفة الجَشعون الإنتهازيّون الذين تاجروا بالنكبات. هُم التّجّار المنافقون الذين استثمروا الضّيقة ليرفعوا أهراءهم. نعم هُم هؤلاء... إنه جشعهم، إنّه طمعهم... إنّه فسادهم... إنّها هيكليّة الفساد التي هم جزءٌ لا يتجزّأ منها، وليسوا برّاء البتّة من هذا المَرض العُضال، لأنهم هم أداة الفاسدين من السّياسيين، ومن دونهم لما استطاعوا شيئاً.
ولهذا، فالثورة أيّها السّادة، لا تقوم على اجتثاث الفساد الكائن في الآخرين وحسب، بل وعلى اجتثاث الفساد الذي يُعشّشُ فينا قبل الآخرين. فعندما نُنظّف باطن الكأس، يُصبِح الظّاهر بالضرورة نظيفاً.
ولأجل كلّ ذلِك، وبالتوازي مع الثورة العادلة على الفساد، التي يُطلقها شُبّان وشابّات نظاف النوايا، أسأل ثوّار البارحة... وما قبل البارحة... وما قبلها، الذين أوصلونا إلى حالتنا الحاضرة، بأن يثوروا على أنفسهم أوّلاً، ويبدأوا بتغيير ذهنياتهم ليتغيّر المستقبل. فالعبرة ليس في تغيير الحكومات، بل في تغيير الذهنيّات، لأنّ "اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"... والسلام.