في الكواليس السياسية حركة ناشطة حول السبيل الواجب اتبّاعه للخروج من النفق الذي دخل لبنان فيه. لا جدال في أنّ الحلّ السحري يكمن في التفاهم على الحكومة الجديدة. الطرح القائل بأن يسمّي الرئيس سعد الحريري شخصاً من قِبله لكي يكون رئيساً للحكومة، يبدو انّه أخذ وقته من النقاش، وان هنالك قبولاً لعدد من الاسماء وفي طليعتها ريا الحسن.
لكن المشكلة ليست هنا، العقدة الاولى تبقى في الاسماء التي ستمثل الحراك. فالقول إنّ الحراك هو من سيتولّى التسمية هو فخ، وليس حلاً. ذلك ووفق المعلومات، انّ هنالك 31 مجموعة تتولّى تحريك الشارع، وكل مجموعة لا تنسّق مع الأخرى وتتمتع باستقلالية ذاتية. ما يعني انّ الحصول على إجماع هؤلاء على اسمين او ثلاثة، او الحصول على تأييد غالبيتهم او حتى البعض منهم، مسألة صعبة جداً وغير واقعية. الّا انّ العقدة الثانية تبقى هي الأهم والأكثر خطورة وتتعلق بموقف «حزب الله».
في الاساس، تعامل «حزب الله» بكثير من الريبة والحذر وحتى القلق مع التوظيف السياسي للحراك الشعبي، واضعاً إيّاه ضمن الصورة الاقليمية الواسعة والصراع العنيف الدائر فيها.
وبصرف النظر عن المطالب التي رفعها الحراك، والتي كان نادى بها «حزب الله»، إلّا انّه يقول إنّه وجد بصمات اميركية في جوانب كثيرة بهدف الوصول الى نتائج سياسية تتلخص بإخراج «حزب الله» من الحكومة وإبعاده، او في حد أدنى للتخفيف من تأثيره السياسي على قرار السلطة التنفيذية، وانتاج توازنات سياسية جديدة على مستوى القرار السياسي.
وبهذا المعنى يعتقد «الحزب» انّ ثمة انقلاباً ضده يجري تنفيذه. ولا بدّ من الاعتراف بأنّ ثمة من يعتقد أنّ مشروع الانقلاب هذا حقق نصف نجاح، مع اضطرار الرئيس سعد الحريري الى إعلان استقالة حكومته، لكن النصف الثاني مرتبط بشكل الحكومة الجديدة، وهو ما يدور حوله كباش قاسٍ الآن.
والأهم أنّ نجاح الجيش اللبناني في اخراج المتظاهرين من الشوارع الرئيسية لا يعني سوى انتهاء المرحلة الاولى من المشروع. ذلك أنّ مرحلة جديدة بدأت وهي أشدّ وطأة وأخطر بكثير، وتتعلّق بالانهيار الاقتصادي الذي تحدث عنه وليد جنبلاط بالامس، مترافقاً مع كلام بل تحذيرات البنك الدولي، الى جانب اجراءات قاسية للمصارف اللبنانية تمنع التمويل الى الخارج وتضع سقفاً منخفضاً أمام سحب العملات الاجنبية.
انّ مسار المرحلة الثانية، والذي يؤشر الى خط تصاعدي ضاغط، سيدفع بالامور الى مزيد من التعقيد والتشنج، وعلى الارجح إعادة الناس الى الشوارع بغضب أكبر، بعد ان تصاب جميع المجتمعات اللبنانية في مصدر رزقها.
في الخطاب الاخير للأمين العام لـ»حزب الله» تحدث عن الانهيار المالي الذي قد يهزّ ركائز الدولة اللبنانية، مشيراً في الوقت نفسه الى قدرة «حزب الله» على تأمين رواتب عناصره. أي اراد القول إنّ «حزب الله» قادر على تأمين ما يقارب نسبة 30% من المجتمع الشيعي او البيئة الحاضنة له. لكن في المقابل هنالك مجتمعات اخرى ستتضرّر بالكامل وتتأذّى بالعمق مثل المجتمعات المسيحية والسنّية والدرزية. ويريد «حزب الله» القول إنّه لن يصرخ «آخ» اولاً.
وفي معرض استباق الصورة الجاري رسمها في لبنان، فإنّ أخذ لبنان الى انهيار مالي سيفتح الباب أمام احتمالات أمنية خطيرة، خصوصاً أمام بعض جوانب الساحة السنّية، التي بدت من دون قيادة موحّدة، وبالتالي تأمين الشروط المطلوبة لإعادة انتاج خلايا ارهابية. واستطراداً يأتي السؤال: هل فعلاً تريد واشنطن دفع لبنان الى الفوضى؟ ام انّها تلعب على حافة الهاوية بغية إضفاء مناخ ضاغط على «حزب الله» لدفعه خطوات الى الوراء؟
قد يكون «حزب الله» توصّل الى قناعة بأنّه لن يتخلّى عن مكتسباته السياسية في لبنان تحت وطأة التهويل او الضغط، لذلك لن يقبل بحكومة تكنوقراط، والأهم لن يقبل سوى بحكومة سياسية ولو غير نافرة، ولكن بشرط عدم المس بتوازناتها السياسية، والتي يجب ان تشبه توازنات الحكومة الحالية. لا بل أكثر، فإنّ «الحزب» متمسك بخيار سعد الحريري لرئاسة الحكومة، وبالتالي فهو لن يُقدم على خطوة تسمية رئيس لحكومة مواجهة. ففي اعتقاده، أنّه قد يكون هناك على المستوى الدولي من يريد دفع «حزب الله» للذهاب نحو حكومة مواجهة من لون واحد، بهدف تجييش العواصم الغربية ضدها، وأخذها الى مجلس الامن، وإصدار قرارات بجعل لبنان تحت الوصاية الدولية.
وبالتالي فإنّ «حزب الله» متمسك بخيار الحريري لرئاسة الحكومة، شرط ان تسبق الاستشارات تفاهمات على حكومة سياسية، ولو كانت «لايت»، لكنها تختزن التوازنات الحالية.
واستطراداً فإنّ «حزب الله» لا يبدو موافقاً على التصور الذي نُسب الى الوزير جبران باسيل، وهو في هذا الوقت يتحضّر لكيفية التعامل مع المرحلة الثانية من الثورة، والتي عنوانها الانهيار المالي للدولة، والتي ستكون أشد قساوة وأطول مدة من المرحلة الاولى، والأهم أنّ الاحتمالات فيها مفتوحة.