لولا الموقف الأميركي الصادر عن خارجية الولايات المتحدة بشأن ضرورة حماية الجيش اللبناني للمتظاهرين، كان المشهد الدولي خالياً من أيّ تعليق مباشر حول الحراك الشعبي في لبنان. لم تكترث وسائل الإعلام الأميركيّة كثيراً للمستجدّات اللبنانيّة، لكن واشنطن وغيرها من عواصم العالم يرصدون ساحات لبنان: هل هي ثورة جدّية؟ يوحي الغرب بأنها "إنتفاضة لبنانية داخلية لا علاقة لها بأزمات العالم العربي"، رغم النقاش الذي دار في بعض وسائل الاعلام الغربيّة عن "ربيع عربي ثانٍ مفتوح" يتركّز في العراق ولبنان والجزائر والسودان.
لم تكترث عملياً سوى فرنسا، التي يهمّها الإستقرار اللبناني، وقد عبّر سفيرها في بيروت أمام سفير دولة عظمى عن إهتمام باريس بأمن لبنان: لا يجب ان تتفلّت الساحة اللبنانيّة. اما الروس فيواكبون التطورات عبر سفيرهم في بيروت الكسندر زاسيبكن الذي بات يعرف كل التفاصيل والخبايا اللبنانيّة، لكنه لم يدلِ بأيّ موقف إعلامي إلتزاماً بموقف بلاده، وإكتفى بالإشارة الى ما صرّحته الناطقة بإسم خارجية روسيا الإتحاديّة بأنّ موسكو لا تتدخل بشؤون لبنان الداخلية.
الترقب الدولي الصامت لا يعني أن عواصم العالم تتفرّج على الحراك الشعبي في لبنان من دون أيّ تدخل. تتعدّد الاتهامات بشأن أدوار جمعيّات لبنانيّة مموّلة من عواصم عدّة، في دفع وتنظيم التظاهر. لم يعد الأمر مخفيّاً، غير أنّ متظاهرين لا يجدون في ذاك الإتّهام غرابة ولا إنتقاصاً من نضالهم، إلى حد أنّ بعضهم سأل: لماذا يحق لحزب الله ان يتموّل من إيران، ولا يحقّ لنا ان نحصل على دعم من دول أخرى؟ هكذا صنّفت "كوادر ثوريّة" انفسها فريقاً سياسياً وليس "مجتمعاً مدنياً"، تتّخذ مواقف، فيرتبط بعض "الثوّار" بتوجيهات خارجيّة نسبياً. لا يمكن تعميم التوصيف، لأنّ الغالبية العظمى من الحراك الشعبي، أّي الجمهور لا علاقة له بإرتباطات كوادر في الحراك، لا الداخليّة ولا الخارجيّة. الهمّ عند المواطنين المنتفضين هو تلبية مطالبهم بالإصلاح والمحاسبة وقيام دولة مدنيّة عادلة.
أحد المقرّبين من واشنطن عاد من الولايات المتحدة يقول ان الأميركيين يغادرون المنطقة، لكنّهم لا يزالون يهتمون بلبنان الآن. يقول "إنّ واشنطن كانت قدّمت أوراق السفيرة الأميركية المفترض أن تستلم مهمامها في لبنان، لكن الخارجيّة اللبنانيّة لم تبتّ بأمر الرسالة التي بعثت بها الولايات المتحدة". هنا يسجّل الأميركيون إستغرابهم لتأجيل الخارجيّة اللبنانيّة أمر الجواب بشأن السفيرة الجديدة. لا يكمن الإنزعاج عند هذا السبب فحسب، لا بل اّن مسؤولين أميركيين أظهروا عدم إكتراثهم برئيس الحكومة اللبنانيّة المستقيل سعد الحريري. لا يبدو ان واشنطن تدعم فكرة عودته لترؤس حكومة لبنان. تفضّل الولايات المتحدة وزيرة الداخليّة والبلديّات ريا الحسن رئيسة للحكومة في المرحلة الحاليّة. قد تكون تلك الإشارة هي سبب إستقالة "الشيخ سعد"، او عدم اندفاعه لترؤّس الحكومة العتيدة. بعد تقديمه الإستقالة لم تُظهر العواصم لا العربيّة ولا الغربيّة أيّ إشارة تجاه الحريري، لا سلباً ولا إيجاباً، مما يُوحي بعدم دعمه في إدارة الأزمة الماليّة والإقتصاديّة.
يتحدّث مطّلعون لبنانيون أن الأميركيين لمّحوا أمام أصدقاء لهم أن الانتخابات المبكرة على أساس قانون انتخابي جديد هي المعبر نحو المرحلة المقبلة. يرى مراقبون انّ العواصم الدوليّة تعتقد أنّ الحراك الشعبي اللبناني سوف يفرض تغييرات في موازين القوى اللبنانيّة في صناديق الإقتراع، عند كل المكوّنات. كانت العين ترصد الساحة الشيعيّة، بعد ان إستساغت عواصم عربيّة وغربيّة مشاهد الحراك في النبطيّة وصور في بداية التظاهرات، للتصويب على الثنائيّة: حركة "أمل" و"حزب الله". لكن المشهد تبدّل في الأسبوع الثاني، ولم تُظهر الساحة الشيعيّة تجاوباً الآن مع شعارات طرابلس والزوق ووسط بيروت، ولم يستطع "اليسار" ان يحرّك شارعاً قلقاً مما هو آت.
يقول المراقبون أنّ سياسيين لبنانيين سمعوا منذ أشهر مضت "انّ لبنان سيشهد فوضى مضبوطة لإضعاف "حزب الله". لا يعني الأمر "شَيْطنة" الحراك، ولا وضع التظاهرات في خانة المؤامرة. لكن الإهتراء الإقتصادي بالتزامن مع الضغوط الماليّة على لبنان، في ظلّ الفساد والهدر وعدم وجود موارد ماليّة، كلّها كانت تعني انّ اللبنانيين سيرفعون الأصوات عالياً رفضاً لواقعهم الإقتصادي الصعب. اساساً كانت وصلت الى مسامع "حزب الله" معلومات تفيد "أنّ هناك من يتحضّر لرمي كرة مسؤوليّة الأزمة الإقتصاديّة في أحضان الحزب"، نتيجة العقوبات بحقّهم، وموقف الدول من السياسات اللبنانية.
لكن توقيت الحراك جاء أسرع مما كان يُتوقّع، نتيجة آلام اللبنانيين. وعلى هذا الأساس، تبقى السيناريوهات متعدّدة، في ظلّ الحديث عن ربيع عربي ثان مفتوح بسبب الأوضاع الإقتصاديّة. لا مشكلة في التظاهر، بينما القلق أن يتفلّت الحراك أو تدخل عليه مفاهيم مدسوسة في حال طال الإنتظار، كقرع الطناجر التي ابتكرها يوماً "شيخ الفتنة" في سوريا العرعور في حمص في أوائل الأزمة السوريّة مطلع العقد الحالي.