منذ ما يقارب خمسين عاماً حصلت في فرنسا احداث أيار ١٩٦٨ حيث انتفض جيل الشباب في ظرف اقتصادي واجتماعي صعب على قيادته السياسية وعلى رأسها الرئيس الكبير شارل ديغول.
انه شارل ديغول، محرر فرنسا من النازية وواضع أسس دستورها الجديد وصانع عودتها إلى نادي الأمم العظمى ومقعدها الدائم في مجلس الأمن.
في الثلاثين من شهر أيار من العام نفسه جرت تظاهرات مضادة في العاصمة باريس والمناطق الفرنسية المختلفة دعماً للجنرال. اتخذ الرئيس الفرنسي على اثرها قراراً بحل المجلس النيابي وإجراء انتخابات نيابية مبكرة. وفي العام ١٩٦٩، فيما كان الصراع ما زال محتدماً، اتخذ قراراً بإجراء استفتاء لتنظيم اللامركزية وإعادة النظر في مجلس الشيوخ. وأكد الرئيس ديغول أنه في حال سقوط الاستفتاء سوف يتنحى عن الحكم. صوت الفرنسيون ضد الاستفتاء بفارق نقطتين، أي ٥٢٪ فما كان من الرئيس الكبير سوى التقدم باستقالته والخروج من المشهد السياسي متفرغاً للكتابة حتى مماته عام ١٩٧٠.
وفي تسلسل الأحداث تلك سيل من العبر.
مهما علا شأن السياسي المؤتمن على مصالح الناس والبلاد، يبقى عرضة لمساءلة الشعب وغالباً على حين غفلة.
أعطى الرئيس ديغول ما لم يعطه رئيساً لفرنسا، لا قبله ولا بعده. لكن الإنسان هرم وربما لم يعد له شيء يقدمه والحياة مستمرة متقلبة نبضها شباب يواكب العصر ويصنع الزمن الحاضر ويحلم بالمستقبل، فتتسع الهوة بين الحاكم والمواطن فلا يعود يسمع احدهما سوى صدى صرخة الآخر حتى يحصل الانفصال.
من ثوابت التاريخ والمجتمعات ان تظاهرات الدعم والتأييد لا تقوي رئيساً بل غالباً ما تضعفه لانها تظهر عجزه كونه اصبح بحاجة لها. الحاكم القوي يكون قوياً بوقوف شعبه هادئاً إلى جانبه.
لم يقل شارل ديغول يوماً إنه الدولة كما قالها لويس الرابع عشر ولو كان لدى الرئيس الفرنسي شيئا من الملوكية. لم يلجأ يوماً إلى تحسين ظروف حياة العائلة والأزلام على حساب الدولة والمال العام حين كان نافذاً مقتدراً. لم ينقلب يوماً عند الشدائد ليقول ان على الدولة استعادة ثقة المواطنين بها، متناسياً بأنه هو رأس الدولة والمؤتمن على دستورها وأدائها.
غالباً ما يتسلل السياسيون إلى جنة السلطة من أقبية الوعود الكاذبة.
شارل ديغول دخل السلطة مرفوع الرأس وغادرها بعد عشر سنوات عالي الجبين، ما لسبب الا لانه كان صادقاً مع شعبه ومع نفسه وزهد بنفسه فداءً لشعبه.
ذاك رئيس دخل السلطة مخادعًا ومارسها فاشلاً وخرج منها إلى غياهب الخيبة والنسيان.
هذا رئيس وعد فتحمل المسؤوليات وأنجز.
وحده الإنجاز مفتاح باب التاريخ والذاكرة الجماعية ملهمة الأجيال ومرجعها.
رُب قائل إن على الشعب ان يضع نصب عينيه استقرار البلاد قبل أي تحرك.
وماذا عن الحكام والسياسيين، أليست تلك مسؤوليتهم الأولى قبل رمي اللوم على الناس؟
حين قال المشرع الروماني quieta non movere (لا تهز الاستقرار) كان يتوجه قطعاً للسياسيين وليس للشعب، فهل من سامع يصغي لآلام وتطلعات الناس فيستجيب وفي ذلك أساس كل استقرار؟
علها غمزة ساخرة من لدن التاريخ. ولد شارل دي غول، كما والده، في الثاني والعشرين من تشرين الثاني، يوم ذكرى استقلال لبنان عن فرنسا. ولكنه اختار ان يدفن في ظل أرزة من لبنان تسهر عليه ابداً.
وحدهم الكبار يعتبرون من دروس الكبار وأكبر الدروس ان المجد باطل والرياء زائل والشعب باقٍ والوطن باقٍ باقٍ.