لم ألتقِ بها يومًا. لا أعرفها إلاّ من خلال كتاباتها أو إطلالاتها المتلفزة. قد لا أتفق معها حول جملة، أو فقرة، أو مقالة كاملة؛ وقد أخالفها الرأي في قسم من كلامها خلال إحدى المقابلات. لكن لا يمكنني ألا أحترمها. سكارلت حداد هي "المرأة" التي تجرّأت في مطلع الثمانينيّات أن تجوب المناطق كلها، حتى في خضم المجازر التي تعرّض لها المسيحيون في الشوف. ودخلت المنازل المليئة بالجثث، لتنقل المآسي التي سكت عنها الآخرون. فضحت كل الإشكاليات، وقابلت الجميع، وطرحت كل الأسئلة. قلمها الفريد كان باستطاعته أن يدرّ لها أموالاً طائلة وشهرة أكبر بكثير، لو استغلّت العلاقات التي نسجتها بفعل عملها، ولو قبلت الشيكات السريّة كما فعل الكثير من زملائها، وما زالوا يفعلون.
(حتى لو لم تؤدِّ التظاهرات الحالية سوى إلى فضح الصحافيين الذين باعوا أنفسهم، فتكون ورقة رابحة. لأن السياسيين الفاسدين لا يفرضون أنفسهم، بل انّ الصحافيين الفاسدين هم الذين يفرضونهم، من خلال نشر الأكاذيب بشأنهم، والترويج لهم. فيؤدون هكذا شهادات زور).
سبق أن استشهدت في أعمالي بتقارير أعدّتها سكارلت حداد خلال الثمانينيّات من القرن الماضي. ولم أكن أتوقع أني سأكتب يومًا عنها. كما أنّي لم أحاول يومًا التعرّف عليها. لكنني تلقيت رسائل مهينة لها، تنسب إليها هذه الجملة: "لنرَ كم من حالات الحبل ستنتج عن هذه التظاهرات". فحاولت مشاهدة شريط المقابلة، ورأيت أنها لم تعنِ ذلك. وهذا ما كتبَته في 24 تشرين الأوّل:
«كان جرحي يوم أمس كبير، إلى حدّ أني لم أتمكّن من الإجابة. فأردت أن أضع حدًّا لمشاركتي على وسائل التواصل الاجتماعي. لكني أعتقد أني أدين بتفسير لأصدقائي، ولغير أصدقائي. فمن يعرفني، يعرف أنّني أقاتل لأجل ما أؤمن به، لكني لا أكنّ أي أحقاد شخصيّة ولا أتصرّف بلؤم. إنّها عطيّة تكرّم الله بها عليّ.
«وهذه هي الأحداث المنسوبة لي: شاركت في برنامج "أجندة" مع عبدو الحلو وناتالي عيسى. عبدو يلقي الكثير من النكات، ويقرأ الطرائف. الفكرة هي أنه لا بدّ من تلطيف الجوّ في الصباح، لتحسين مزاج الناس. وكان عبدو يعرض صورًا طريفة بعض الشيء من التظاهرة، ويدلي بتعليقاته. فقال: "الله أعلم كم سنشهد من حالات خطوبة وزيجات بعد هذه التظاهرات". فأضفت "وحالات حبل"!. تفرض نفسها فكرة الحبل بعد فكرتي الخطبة والزواج. لكن إن أخفيت هاتين الفكرتين، يبدو الأمر وكأنني لمّحت إلى ما اعتقدتم أني قلت. وأنا أقدّم اعتذاراتي الحارّة إلى كلّ من شعر بالإهانة. ولكن، إلى السيّدة التي لا أعرفها، والتي استغلّت الموضوع، وحوّرت الطرفة، أقول بكل فظاظة: "أنا آسفة، لكنّني سأتكلّم كلما دُعيت إلى الظهور على الشاشة، (لكني أعدكم أن أخفّف من إلقاء النكات)".
ما تقوله سكارلت مطابق للوقائع، ويمكن التأكد منه. ولكن، رغم هذا الاعتذار، لم يتوقف سيل الشتائم. فكتبت سكارلت في صباح الثلاثاء ٢٧ تشرين الأول:
«أردت أن ألزم الصمت، لكن شعوري الفائق بالظلم يمنعني من ذلك. قد أكون اخترت الفريق الخاسر في كل مرّة، لكني كنت دومًا أعمل من كل قلبي، وانطلاقًا من قناعاتي. لطالما كان لبنان الذي اخترته، لبنان التسامح وقبول الآخر. منذ حقبة الميليشيات وحتى يومنا هذا، لم أرده يومًا لبنانًا يرزح تحت نير الفكر الواحد. ربما ارتكبت أخطاء، ولا زلت أرتكبها، لكني أتمسّك بحقي بالاختلاف».
«كانت الصحافة أكبر شغف في حياتي، ولطالما حاولت الاضطلاع بعملي بصدق وأمانة. ولم أسعَ يومًا إلى تغيير سياسة الصحيفة، بل حاولت ببساطة الاحتفاظ بفسحة صغيرة، أنقل فيها الأحداث من منظار آخر. ألهذا يريد البعض رأسي اليوم، ويرسلون إليّ التهديدات، ويضغطون على رئاسة تحرير لوريان لوجور؟ لا يتحججن أحد بهذه النكتة البائسة التي جالت العالم! فلماذا لا يبثّ من أطلقوا هذه الحملة، التسجيل كاملاً؟ لأنهم يخشون أن تتجرّد حملة الحقد التي يشنونها من أي فحوى»!.
ومع ذلك، فإنّ الفكرة التي لم تتفوه بها سكارلت حداد، تُسمع في الصالونات، وحتى في ساحات التظاهر، من قبل بعض الناس الذين أخرجوا كلام سكارلت حداد من نطاق الحوار.
وهي لا تعكس سوى نفسيتهم. فهم ينسبون إلى الناس أفكارا لم يدلوا عنها. على أي حال، فهم أيضًا من يتهمون الشبان والشابات بالمجون، بسبب جوّ المرح والرقص والتخالط السائد في بعض ساحات التظاهر. وبما أن الكلام يكثر في هذا الموضوع، فإن سكارلت لا تتعرض للهجوم بسبب ما قالته، إنما لأنها "سكارلت حداد". فالمرء يدفع ثمن مواقفه. وأنا أراهن أنّنا لو دققنا بحسابات مَن يشتمون حداد في مواقع التواصل الاجتماعي، لعثرنا على صفحات مسيّسة للغاية.
ولو عرف نزهاء القلوب مَن هي سكارلت حداد، وكيف دافعت عنهم خلال عقود من الزمن، لما انجرّوا وراء العصابة التي شرعت في التهجّم عليها. وكانوا ليتأكّدوا مما قالته قبل إلقاء التهم.
وعلى أي حال، أقول للناس الشرفاء: «لمَ تأخذون الموضوع على نحو شخصي، طالما أنكم غير معنيين»؟
وأذكر ما قالت ليفي غضب، إحدى السيّدات الشريفات:
ــ وهل ابنتي عاهرة؟
فقلت لها:
-لم يقل أحد إنّ ابنتك عاهرة. حتى ولو قالت ما نسب إليها، أي إنها تتوقّع حدوث حالات حمل، فهذا لا يعني أنّ جميع الفتيات ستحملن. ولكن، على ضوء الفيديوهات التي وردت من هناك، يمكن توقّع بعض حالات الحمل عند البعض. أما أنت التي ربّيتِ بناتك على القيم، فلم تتناولين الموضوع شخصيًّا؟.