تقلق الأمهات على أبنائهن في فترات الحرب، هذا شعور طبيعي. ولكن أن تشعر الأمهات بهذا القلق في فترات السلم فهذا أمر مخالف للطبيعة!.
فشلت "وثيقة الوفاق الوطنيّ" بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة في طمأنة المواطن اللبناني على مستقبله وطموحاته وأحلامه، فعاش اللبنانيون تداعيات الحرب وهواجسها -حتى بعد سكوت صوت المدافع-، وتكفّل الفرز الطائفيّ والمذهبيّ والجغرافيّ بالدور الأكبر في تكريس شعور "الخوف من الآخر". وإذا كان اللبنانيون قد حملوا السلاح في وجه بعضهم تحت عناوين مختلفة، إلا أنهم في الواقع حملوه من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية وإعادة توزيع الثروة، وهو ما لم يحصل -للمفارقة- بعد اتفاق الطائف.
وفي الوقت ذاته، أمعنت جُلّ أحزاب السلطة بإشعال سياسة التخويف من الآخر! وهي التي تملك الكثير من هذا السلاح في أقبيتها، وكانت مرارًا وتَكْرارًا وعند كل استحقاق تُخرج هذا السلاح من مخازنها ليشعر مناصروها بخطر وجودي داهم، وبأنّ أجل فناء "نوعهم" قد بات وشيكًا، فيتكاتفوا ويتقوقعوا في مواجهة كل "آخر" يشعرون بغربته عن "نوعهم"!.
جاءت حرائق الشهر الماضي لتنتزع من السلطة سلاحها الأيديولوجيّ هذا أي "سلاح الخوف من الآخر"، بحيث شعر اللبناني للمرة الأولى -منذ سنوات طوال- بأن لا جدران فاصلة بين المناطق، ففُتِحت أبواب المساجد للأجراس المحترقة، وصدحت الكنائس بالآذان.
هذه لحظة وعي جماعي جديدة يكتشفها اللبنانيون من مختلف المذاهب، بعد فشل رهانهم على النظام الذي عجز عن إطفاء نار جوعهم وحرمانهم... فكيف به أن يُخمِد نيران أشجارهم؟.
وبمعادلة بسيطة بات من الممكن استنتاج أنّ كلنا واحد والسلطة هي "الآخر"، هذه السلطة لم تنتظرنا لنمسح سواد الحرائق عن وجوهنا، لم تنتظر نضوج صدمتنا بل نكراننا ليصبح نسيانًا، لم تتوقّف عند مصيبتنا لتصل إلى مراحلها الأخيرة، كما هو حال المراحل الأخيرة للصدمات النفسيّة، أي مرحلة التَقَبُل والنسيان! بل أمعنت تجَبّرًا، وأضافت على أكتافنا المتعبة مزيدًا من الأثقال، مزيداً من الضرائب.
هذه حمولة تنوء الأكتاف بحملها، لكنّ اللبنانيون حملوها ونزلوا محقين الى الساحات... شعروا بأنّ لديهم شيئًا ما ليقولوه في وجه السلطة، لعلها الطريقة الوحيدة للتعبير عن وجعهم بعد فشل كل الوسائل الأخرى. هذه نقطة قوّة! ولكنها للأسف نقطة ضعف كذلك. كيف؟.
يميل البشر بطبيعتهم، إلى التحرر من القيود والرقابة، الأمر الذي يجدونه في التجمعات البشريّة الكبيرة بحيث يشعر الفرد المنضوي إلى لواء "الجمهور" بذوبان فرادته لمصلحة "أنا الجماعة"، كذلك يشعر بقوّة هذه الجماعة التي لا تقهر، فيُعلي من شأنها، ويصبح جاهزاً لتبني أيّ شعار ترفعه ويعتقد واهماً بعمق أفكار هذه الجماعة. ولكن، وعلى العكس من ذلك تماماً، فإنّ أفكار الجماعة تميل إلى التبسيط والسطحيّة وحاجاتها العقلية متدنية، فتحركها العاطفة قبل المنطق.
نزل اللبنانيون إلى الساحات، لا سلطة للبناني على لبناني إلا بالمعاناة والعمل المضني، نزلوا من دون خطّة مدبرة، من دون تحضير مسبق. بالطبع! فلا يحتاج الإنسان خطّة لإدارة جوع أمعائه.
وحريّ بهذا التجمع الأفقي أن يحتاج إلى قائد، إلى عقد اجتماعي، لا بدّ له من رؤية، ومن البديهيّ أن يبحث عن تمويل... فهذه الحناجر تحتاج إلى هتاف، وتطالب بمنابر. عندئذ يأتي دور الجهات التي درّبت أشخاصًا عديدين تحت مسميّات كثيرة وجمعيّات مختلفة... وأطلّت وسائل الإعلام بدورها لتوجيه طفرة قوة "الأنا الجماعيّة" للحراك حيث تشاء، ففعلت فعل مروحة هواء ضخمة تدفع بكومة من أوراق الخريف المتعبة ناحية تشاء! كذلك فعلت بعض الأحزاب، فاستعملت أجساد المتعبين والمحازبين كسواتر في قطع الطرق أمام "الآخر" تمهيدًا للحصول على مكاسب سياسية في أيّ تسوية قادمة، وهذا كله على حساب أفواه الناس الجائعة وخوف الأمّهات على مستقبل أولادهم...
إذن فالجماهير، وبغض النظر عن ثقافتها وتصنيفها الإجتماعي، بحاجة دائمة لأن تخضع إلى قيادة في حين أنّها غير جاهزة لتقبل الحجج المنطقية، بالإضافة إلى عنصر الاستقطاب والجذب، لتبقي على الجمع من حولها، لذلك نرى أشكالاً مختلفة من التحرّكات التي تقوم بها هذه الجماعة لتحافظ على زخمها وقوتها الدافعة.
هذه الجماهير التي نراها في الشارع اليوم، وعلى الرغم من شكلها الحضاري الثوري، إلا أنّها وفي حال نجاحها وحصولها على مقدرة التغيير، فإنها ستعيد إنتاج نفس المشهد الذي "ثارت" ضدّه، حيث إنها، أيّ الجماهير، بنت بيئتها وحيث ان الماضي حاضر في "لا وعيها" بشكل أقوى من حضور المستقبل الذي يحتاج الى رؤية، رؤية من الواضح أنها لم تتبلوّر حتى الآن.