الساعات المُقبلة حاسمة لمعرفة الإتجاه الذي ستسلكه الأمور على صعيد تحديد هويّة رئيس الحُكومة المُقبلة، حيث بات معروفًا أنّ تعمّد تأخير الدعوة إلى إستشارات التكليف، يعود إلى قرار بحسم الخُطوط العريضة للتأليف، قبل تسمية الشخصيّة التي سترأس الحُكومة المُنتظرة. وبغضّ النظر عمّا إذا كان رئيس حُكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، سيعود إلى رأس السُلطة التنفيذيّة مُجدًدا، أم أنّه سيُسمّي شخصيّة أخرى لهذه المُهمّة، وبغضّ النظر عن حجم التمثيل السياسي الظاهر والخفّي الذي ستتضمّنه هذه الحُكومة، الأكيد أنّ مئات المشاكل المُتراكمة في إنتظارها من لحظة تشكيلها، الأمر الذي يُرتّب عليها مَسؤوليات جسام، لا ذنب لها فيها، بل هي نتيجة سياسات فاشلة وصفقات وسرقات مَوصُوفة مُتراكمة منذ ثلاثة عُقود، أيّ منذ نهاية الحرب في لبنان حتى تاريخه!.
وفي هذا السياق، وإضافة إلى مشاكل لبنان المُزمنة والمَعروفة: بدءًا بخدمة الدين العام، مُرورًا بالعجز في الميزان التجاري ما بين الواردات من جهة والنفقات من جهة أخرى، وُصولاً إلى التعثّر الإستثماري وبالتالي بلوغ نسبة البطالة بوجهيها الفعليّ والمُبطّن(1) أرقامًا مُخيفة لا تقلّ عن 25 % في أفضل إحصاء، وتتجاوز 43 % في الإحصاءات الحديثة الأكثر تشاؤمًا، علمًا أنّ نسبة البطالة في صُفوف المُتخرّجين الجُدد وجيل الشباب تبلغ حاليًا أكثر من 60 %! والمُشكلة أنّ الأرقام الخاصة بالبطالة وبغياب فرص العمل، مُرشّحة للتفاقم سريعًا خلال الأسابيع القليلة المُقبلة، في حال لم تبدأ المُعالجات المَطلوبة بالسرعة اللازمة، أو في حال لم تكن هذه المُعالجات بقدر الأمال المَنشودة. فالمسألة ليست في تقاضي نصف راتب عن شهر تشرين الأوّل نتيجة الإقفال القسري الذي نجَم عن الإحتجاجات الشعبيّة وما رافقها من إقفال غير مُبرّر للطرقات ومن تعطيل للأعمال، بل في إبلاغ العديد من الشركات والمُؤسّسات مُوظّفيها والعاملين لديها، أنّها ستكون مُضطرّة إلى الإقفال التام في المُستقبل القريب، في حال بقاء الأوضاع عُمومًا على ما هي عليه، بغضّ النظر عن تطوّر حركة الإحتجاجات التي تضرب لبنان منذ 17 تشرين الأوّل الماضي.
وإذا كان ما حصل مثلاً على مُستوى قروض الإسكان، قد ضرب سُوق العقارات بشكل كامل، وعشرات أسواق العمل المُوازية والمُكمّلة لهذا السوق، وزاد من تفاقم الأزمة الإقتصادية والمالية خلال المرحلة الأخيرة، فإنّ الإنعكاسات السلبيّة لإستمرار الأزمة الحاليّة على القطاع السياحي بالتحديد، لن يضرب هذا القطاع الذي يُعتبر رئة أساسية للإقتصاد اللبناني فحسب، بل سيضرب مجموعة كبيرة من قطاعات العمل المُوازية المُرتبطة بالقطاع السياحي، كما حصل عند توقّف القُروض المصرفيّة.
أكثر من ذلك، وعلى الرغم من القرارات الحالية لفرض إستخدام العملة اللبنانيّة في عمليّات تسعير السلع وبدل الخدمات، وفي إستيفاء الثمن أو البدل، ولإصدار الفواتير بالليرة اللبنانيّة، تحت طائلة إتخاذ التدابير القانونيّة بحق المُخالفين(2)، فإنّ القيود القاسية التي فرضتها المصارف على الودائع، لمنع تحويلها إلى الخارج هي سيف ذو حدّين. فمن جهة تحول هذه القيود دون تهريب رأس المال بالعملات الأجنبيّة إلى الخارج، لكنّها من جهة أخرى قيّدت قُدرة العاملين بالتجارة وبالإستيراد والتصدير على التحرّك، ما يعني أنّ العديد من الشركات والمؤسّسات ستجمّد كل عمليّاتها في المدى المنظور، مع ما يحمله هذا الأمر من ضربة إضافيّة للدورة الإقتصادية ككلّ، ومن إرتفاع إضافي لنسب العاطلين عن العمل!.
والقيود القاسية التي فرضتها المصارف أيضًا على عمليّة السحب الداخلي بالدولار، إيجابيّة لجهة الإحتفاظ بالعملة الأجنبيّة ومنع التهافت الهستيري عليها، مع كل ما قد يجلبه هذا الأمر من مخاطر إفلاس، لكن في المُقابل، إنّ هذه القُيود تُفقد الثقة، ومن شأن تطبيقها لفترة طويلة أن يفتح أسواقًا مُوازية للتعامل التجاري لا تمرّ بالمصارف نهائيًا، بحيث تُصبح الأموال في المنازل، وعمليّات البيع والشراء خارجها!.
إشارة إلى أنّ لبنان لا يزال صامدًا نسبيًا حاليًا، بفعل الدعم المالي الذي يُؤمّنه العاملون في الخارج، والتحويلات المالية التي يُرسلونها إلى الداخل، حيث تصبّ هذه الأموال بالعملات الأجنبيّة في خانة إيجابيّة، لكنها غير كافية وحدها لإيجاد التوازن مع الكميّات الكبيرة من الأموال التي تخرج من لبنان(3). من جهة أخرى، إنّ إرتفاع عدد العاملين في المُؤسّسات العامة والرسميّة، المدنيّة منها والعسكريّة، يلعب بدوره دورًا إيجابيًا في الإبقاء على حد أدنى من السيولة في الأسواق، لتحريك الدورة الإقتصاديّة، في ظلّ التعثّر الذي تواجهه مُعظم مُؤسّسات القطاع الخاص على إختلاف أنواعها، لكنّ هذه الإيجابيّة يُمكن أن تنهار بدورها في حال لم تتم سريعًا مُعالجة وتيرة التضخّم في الأسعار الحاصلة في الأسواق حاليًا.
الغريب أنّه بمُوازاة هذا الكمّ الهائل من المشاكل والمخاطر المصيريّة، والتي يتطلب حلّها ليس الكثير من الخطط المَدروسة والجهود المُضنية فحسب، إنّما بعضًا من المُعجزات، لا يزال العديد من الأفرقاء اللبنانيّين يتعاملون مع ما يحدث من زاوية سياسيّة، لجهة قياس حجم الربح والخسارة لكل فريق، من كل خطوة يقومون بها، مع تسجيل مُحاولات لتركيب تسويات جديدة بين بعض الأفرقاء، وذلك في إنفصال كامل وتام عن الواقع، وفي تنكّر مُعيب لحجم المُعاناة الحياتية والمَعيشية التي صارت تطال شرائح واسعة جدًا من الشعب اللبناني، علمًا أنّ هذه الشرائح تكبر وتتوسّع ككرة ثلج مع مُرور الوقت! فهل ستُشكّل الحُكومة بسرعة قبل فوات الأوان، والأهمّ هل ستكون قادرة من خلال ذهنيّة جديدة في تركيبتها وفي أسلوب عملها، على إستعادة ثقة مفقودة، للبدء بخطوة الألف ميل لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، علمًا أنّ هذا الأمر مُمكن إن صفت النيّات، وفي حال تكاتف الجميع، لأنّ إستعادة الثقة هي مفتاح عودة الدورة الإقتصاديّة إلى الإنتظام، أم أنّ شهوة السُلطة الجارفة والمشاريع السياسيّة الإقليميّة، ستعيدنا إلى حُكومة مُختلفة في الشكل، لكن مُشابهة في المَضمون، بحيث تتسارع وتيرة العد العكسي لإنهيار الهيكل على الجميع، من دون إستثناء لا الذين غسلوا أيديهم سريعًا ممّا حصل ويحصل، ولا الذين ما زالوا حتى تاريخه مُتمسّكين بالسلطة؟!.