أَبنائي "الثُّوَّار"، تحيَّةً وبعد...
عندما نزلتم إِلى ميادين التَّظاهر السِّلميِّ الحضاريِّ، أَحسسْتُ أَنَّ بوصلة الحراك الشَّعبيِّ، عادت لتتَّخذ اتِّجاهها الصَّحيح، وتُنقِّي نفسها بنفسها، من الدُّخلاء على المطالب المُحقَّة، من الَّذين هدفوا إِلى ذرِّ الرَّماد في العيون، تضليلاً للمُتظاهرين أَوَّلاً، وبالتَّالي إِخفاءً للحقيقة خدمةً للفاسدين!.
صحيحٌ أَنَّني حذَّرت في مقالةٍ سابقةٍ من "استخدام أَبنائنا سواترَ ترابيَّةً للحراك"، غير أَنَّني لم أَكن لأُشكِّك، ولو للحظةٍ واحدةٍ، بوعي مُعظم أَبنائِنا الوطنيِّ، مُتسلِّحين بقيمٍ زُرعت في نُفوسهم المَجبولة بالطِّيبة والصَّفاء، وقد استمدُّوهما من مُعلِّماتهم ومُعلِّميهم في المدارس التَّربويَّة الَّتي يبذل الأَهلون الغالي والنَّفيس... كي يغتني أَبناؤهم بكنوز الحقِّ والخير والجَمال!.
واليوم، وبعد وضوح الصُّورة وإِثبات الذَّات، أَنحني أَمام مُعظمكم، أَنتم الَّذي تصرَّفتُم بِوعيٍ، وبِوحيٍ مِن قيمٍ مزروعةٍ فيكُم بأَمانةٍ تربويَّة، ومِن رسالةٍ تربويَّةٍ وطنيَّةٍ جامعةٍ وواعدةٍ!.
اليوم، تعودون إِلى مدارسكم بعدما قُلْتم كلمتكم وكرَّرتموها وأَللَّهمَّ فقد بَلَّغتُم، وأَكَّدتم وأنتم على موقفكم ثابتون، وللرَّقابة والمُتابعة ساهرون، وقد بات الجميع يحسب لكم أَلف حسابٍ!.
وبما أَنَّ الرِّسالة قد وصلت في منتهى الوضوح والشَّفافيَّة والصَّراحة، فقد باتت الكُرة الآن عند المعنيِّين، الَّذين أَيقنوا أَخيرًا أَنْ ثمَّة شابَّاتٍ وشبَّانًا واعون لدورهم الوطنيِّ، وأَنتم على أَتمِّ الجُهوزيَّة لتأْدية مسؤوليَّاتٍ، هي وإِنْ كانت بِحجمكُم، غير أَنَّها بالغة الأَهميَّة، وأَنتُم لها!.
أَبنائي "الثُّوَّار"، بات عليكم الآن أَنْ تُثبتوا أَنَّكم واعون أَيضًا لمسؤوليَّاتكم التَّعلُّميَّة، ولِبناء شخصيَّتكم الثَّقافيَّة والمعرفيَّة، فـ "هل يستوي الَّذين يعلمون والَّذين لا يعلمون"؟.
لقد كان أَولادي الثَّلاثة معكم، كلٌّ منهم مع رفقاء المدرسة أَو الجامعة أَو المعهد، وكنت أَرى في كلٍّ منكم، ابنًا لي، أَخاف عليه كما على أَبنائي، وإِن قسوتُ عليكم يومًا، فكيلا يُدنِّس أَيُّ فريقٍ سياسيٍّ نقاوة سيرتكم، وطهارة نفوسكم، وبياض قلوبكم، فَيقودكم إِلى السَّفاهة والحماقة، ويبعدكم عن بيئتكم وقيمكم، ويسخِّركم لِتبييض صورته، ويستخدمكم سواتر ترابيَّةً تحميه من وابل الاتِّهامات بالفساد وانعدام الضَّمير الوطنيِّ كما والخُلقيِّ!.
أَنتم جيلٌ جديدٌ نشأَ في المُعاناة، ورضع حليبها حتَّى الفطام، ونشأَ في طبيعتها الموبوءة، وتنشَّق هواءَها المُلوَّث، غير أَنَّكم واعون لوجوب تغيير الصُّورة، وأَنتم ماضون في ذلك.
تعودون إِلى مقاعد الدِّراسة وأَنتم أَحرارٌ، غير مُتزلِّمين إِلاَّ للوطن، فلا تعودوا إِلى القوقعة إِنْ كنتم تحرَّرتم مِنها، ولا تحشروا نفوسكم في قُمْقُم الحزب والتيَّار والزَّعيم والقبيلة والعشيرة، بل شرِّعوا أَبواب نفوسكم ونوافذها لحرِّيَّة الامتداد على كامل تُراب الوطن الجامع، تحت راية لبنان الواحد والمُوحَّد بِكم!.
أَبنائي "الثُّوَّار"، لا أُخاطبكم مِن موقع التَّنظير والوعظ البعيدَين عن الواقع المُتردِّي وساحات النِّضال الشَّريف... فأَنا انغمسْتُ حتَّى الأُذنين، وخلال ثلاثة عقودٍ، في العمل النِّضاليِّ، مُناديًا من "قصر الشَّعب" في بعبدا منذ 1989، بـ"الحريَّة، السِّيادة والاستقلال". غير أَنَّ تجربتي الحزبيَّة تصحُّ فيها، بعد هذا الوقت الطَّويل، مقولة: "وقت جلي الصحون عيِّطوا لبرهوم، ووقت العزايم برهوم نايم". إِنَّ نضالي جعلني أَخسر الكثير من الأَصدقاء، ولم يُكسبني موقعًا وظيفيًّا وإِنْ كُنت أَستأْهله بكفايتي، وبِأَقدميَّتي في العمل الإِعلاميِّ الرَّسميِّ. ذلك لأَنَّ الأَحزاب والتيَّارات... لا تكترث لأَمر مُناصريها والمُنتسبين إِليها على خلفيَّة أَنَّ هؤُلاء "تحصيلٌ حاصلٌ". كما وتعتبر الأَحزاب والتيَّارات السِّياسيَّة عندنا، أَنَّ الأَولويَّة لكسب أَصوات الشَّارع الآخر على حساب المُنْتسبين بكلِّ قناعةٍ... لكنَّني، إِنْ عاد التَّاريخ بي، فلن أُغيَّر مواقفي ونضالاتي، لا بل أَبقى ثابتًا عليها، فَمكسبي هو مكسبُ الوطن وقد تحقَّق!...
أَبنائي الثُّوَّار، كلانا اليوم مُتحرِّرٌ من حزبيَّته الضَّيِّقة، وساعٍ إِلى خدمة الوطن بكلِّ تجرُّدٍ، فلا تُقيِّدوا نفوسكم بعد اليوم، بالحزب والتيَّار والطَّائفة، ولا بالحيِّ والشَّارع...
أَنتم بعد 17 تشرين الأَوَّل أَحرارٌ على امتداد وطن الرِّسالة، فلا تعودوا إِلى عُبوديَّة التَّقوقع البغيض!.