ليس هناك من عددٍ للأحزاب والجمعيات التي تطالب بإسقاط النظام في لبنان منذ 17 أكتوبر. لا قيادة ظاهرة بل إرباك رسمي للقابضين على الدولة وضياع وإتهامات ويافطات ومظاهرات وشلل. هناك ظاهرة شبابية ونسائية وشعبيّة قويّة جدّاً جاذبة بفصاحتها وقوة رفضها وتجاوزت الأحزاب والطائفيات والمذهبيات بما يتجاوز مضمون مصطلح الثورة المعروف وتتطلّع إلى التغيير الشامل وبناء لبنان الجديد. لبنان بلد متميّز حتى في ثورته. هناك شخصيات وأحزاب وخطب تعفّنت لإنتقاعها في الفساد وهي مرذولة ومرفوضة حتّى ممّن هم حولها وفيها.
وهناك كلام يجتر لا مضامين له منذ عقود مثل القول بلبنان بلد سيد حر مستقل.
لكن هناك ما هو أخطر: علاء أبو فخر الذي أعتبره الحراك الشهيد الأوّل للثورة في لبنان سقط على مشارف بيروت عند مثلث خلدة المدموغ في ذاكرة لبنان إنتفاضة بوجه الإحتلال الإسرائيلي لبيروت في ال1982.
أين أصبحت الثورة في لبنان؟هل بلغ لبنان المرحلة الخامسة أعني مرحلة الدم بعدما قطع مراحل الصدمة والمفاجأة أوّلاً ثم مرحلة التنظيم والتظاهر ثانياً تلتها مرحلة الإعلام والإستقطاب الداخلي والخارجي ثالثاُ وهي الآن في مرحلة الفوضى والتداخل المترنح الشامل على ضفاف التعب حيث لا مال ولا مصارف ولا مستشفيات ولا بنزين ولا طحين وخوف يدبّ في الأرجاء ؟
لا أجوبة لكن هناك إشارات من الماضي تجمع الداخل والخارج والأحزاب والجمعيات والحروب المتكررة والسلام الصعب والمستحيل في لبنان:
1- نشبت الحروب اللبنانية بين 1975 و1982، وتحوّل لبنان الساحة المفتوحة على العالم في كتلتين: الجبهة اللبنانية والحركة الوطنيّة يمثلان أحزاباً وتجمعات سياسية وطوائف ومذاهب وجمعيات بلغ عددها 719 في ال 1976، غابت الدولة حتى ال1989.
2- وبهدف إثبات تاريخي لعدد الأحزاب والجمعيات في لبنان، قمت في ال1996 مع طلاّب جامعيين بدراسة توثيقية إستندت فيها إلى حادثين مهمين متشابهين ومتباعدين في الزمان، لكنهما جاذبين للرأي العام سلباً أو إيجاباً: استشهاد بشير الجميّل في 14 أيلول 1982، قبل تسلّمه رئاسة الجمهورية، ومقتل باسل حافظ الأسد بحادث سيّارة في 22 كانون الثاني 1994. رصدنا أسماء المستنكرين والمعزّين في ثلاثة صحف لبنانية ( النهار، السفير، الديار) خلال عشرة أيام بعد الحادثين، ووصلنا الى تدوين 830 حزباً وتنظيماً سياسياً وجمعية في لبنان وخلاصة ثابتة أنّ الجمعيات هي بنات الأحزاب والطوائف والمذاهب والعائلات والهيئات العربية والإقليمية والدولية في لبنان. وللمفارقة، عثرنا على أحزابٍ مرخّصة أو سريّة لا يتعدّى المنتسبون إليها سوى ثلاثة أشخاص مع الرئيس الذي هو الأمين العام والناطق الرسمي بإسم الحزب ومعه مرافق و/أو سائق ويتصرّف في الحياة العامّة ويصرّح ويعقد مؤتمرات صحفيّة وكأنه رئيس لحزب ضخم.
3- جاء إغتيال رفيق الحريري في ال2005 ليزيد الأمر تعقيداً إذ برزت الحاجة الى معرفة العدد التقريبي للجمعيات والأحزاب بعد ذلك التاريخ الذي إنشطر فيه لبنان بين 8 و14 آذار المنحسرتين بسبب التوازنات والمستجدات الإقليمية والربيع العربي المتحرك من بلدٍ لآخر.
4- تصوّروا، "تأسست بين 18/9/2008 و 17/9/2009 ، 884 جمعية في لبنان أي بمعدّل ثلاث جمعيات في اليوم ، إذا احتسبنا أيام الدوام الرسمي. وعندما دقّقنا في الجدول الإحصائي الرسمي لعدد الجمعيات في لبنان تجاوزنا ال7000 جمعية. لماذا ؟
لأن قانون تأسيس الجمعيات في لبنان يعود إلى العام 1909 أي إلى 110 سنوات قبل الإستقلال؟ لا تحتاج الرخصة بمقتضى المادة السادسة منه سوى التأسيس ثمّ تقديم طلب لوزارة الداخلية والممارسة ثم الحصول على العلم والخبر ولو متأخّراً. لا فرق في لبنان كبيراً بين حزبٍ وجمعية، ولكلّ حزب جمعياته المتنوعة ولكلّ جمعية مرجعية سياسية ومذهبية تؤسسها وتحميها وتغرف لها من خزينة الدولة.
5- منذ "ثورة الأرز" و"الربيع العربي"، راجت في لبنان وفي الجامعات ثقافة الخروج من المناهج التقليدية الصدئة نحو أطنان الكراريس المقتضبة والكتيبات والنشرات والدعوات والمحاضرات والمقابلات الإعلامية والشعارات التي كانت تتدفّق على صناديق البريد وتحت الأبواب وعبر برامج الإعلام والمؤتمرات والأنشطة الكثيرة التي غرقت فيها وزارة الشؤون الإجتماعية، وتدور في معظمها حول عناوين جاذبة للشابات والشباب مثل:
إقرأ دستورك. كيف تنشىء الجمعيات؟ الطريق نحو الديمقراطية، جمعيات المجتمع المدني ودورها في التغيير،، تحديث الإدارات ومكننتها ومراقبتها ومحاربة الفساد بهدف إصلاح النظام البائد ثمّ تغييره وتوجز تقارير المشاريع الكثيرة في التنمية المستدامة والحرية والديمقراطية والبطالة وحقوق المرأة والطفل والشيخوخة والمعوقين والحرية الجنسية حتّى المثلية منها وحرية المعتقد والتدريب على التنمية المؤسساتية. جذب شباب وشابات لبنان عناوين وشعارات مغرية مادياً وسياسياً وإجتماعياُ ترعاها وكالات التنمية والدول المعنية بالشرق الأوسط الجديد وبرامج الأمم المتّحدة بمساعداتها وهباتها ومستشاريها تموّل وتدرّب أعضاءها وتجمعهم في مؤسسات وجمعيات غير حكومية أوهيئات تطوعية حاملة لبرامج التوعية والتثقيف، والتماسك والاندماج الإجتماعي ونبذ الطائفية. وبات لأفراد الجمعيات ثيابهم وقبعاتهم وشعاراتهم الظاهرة.
اللافت جدّاً تلك الحماسة الهائلة لظاهرة مؤسسات المجتمع المدني حتى في قرى لبنان النائية ونشر الريادة وقيادة الشباب، وجذب الجماهير المسكونة بالطموح إلى التغيير الشامل تسعفها وسائل التواصل الإجتماعي الذي سحر الجميع.
كانت لافتة صورة لطالبة دكتوراه على الفايسبوك بالبزّة العسكرية وتصوّب بندقية حربيّة للرماية الحيّة. سألتها. قالت أنتمي إلى جمعية أممية والتدرب على السلاح من ضمن البرنامج. أسافر كثيراً وراتبي يتجاوز راتبك في الجامعة قالت. هناك مئات الجمعيات المدنية الناشطة في لبنان الجاذبة لها مقراتها ومدراؤها الأجانب وبرامجها
التغييرأكثر من مقدّس في نظري لكنه يتيه في لبنان بين الآباء والأبناء وبين الداخل والخارج.