الحديث ذاته في كلّ مكان رَحلنا إليه وحَلَلنا فيه. غضبٌ من الكنيسة وعليها! والمقصود بالكنيسة هنا، السّلطة الكنسيّة أيّ الإكليروس، عِلماً بأن الكلمة تعني في الأصل، جماعة المؤمنين بالمسيح والمعمّدين بإسمه، أي شعب الله كلّه إكليروساً وعلمانيّين.
والغاضبون من الكنيسة بالمفهوم الأول، هُم أبناؤها وبناتها الذين تربّوا في حضنها وتتلمّذوا على أيديها وتخرّجوا من مؤسّساتها، وأكلوا وشربوا من معاجنها وأباريقها، وفي هذا مُفارقة! إذ كيف وصل هؤلاء إلى هذا المكان من التجرّوء على الكنيسة؟ ولِماذا هذا الغضب القائم من الرّعاة وعليهم؟ غضبٌ سحق بعجلته الغليظة جميع الرّعاة على حدٍّ سواء، مع ما في ذلِك من ظُلم؛ فالرّعاة القديسون كُثُر، وهُم أيضاً ضحيّة رُعاة رَعَوا أنفسهم ولم يَرعَوا الرّعيّة(حز34: 2).
بحسبِ الرّعية، التي ليست بدورها على كمال، هناك مُسبِّبات لهذا الغضب، يُبان في سلوكٍ غير إنجيليّ وفي إدارةٍ غير إنجيليّة لمؤَسّساتٍ مسيحيّة هي في أساس تكوينها أدوات لنَشر رحمة الله. نَعم، هذا ما يستجرّ الغضب: فكم وكم من طفلٍ وطفلَة وشابٍ وشابّة صُفِّفوا على الجدران أمام أعيُن رفاقهم، مع ما يُرافق ذلِك من خِزيٍ وعار، لأن والديهم تأخّروا عن دفع الأقساط المدرسيّة؟ وكم من مدرسة حجرت على الإفادات المدرسيّة كوسيلة ضغط على الأهالي لدفع المتوجب عليهم؟ وكم من رعيّة تاجرت بالموت والموتى، واستغلّت حاجة الناس إلى المدافن فأجّرتها بالفصول وبأموالٍ طائلة، تحت طائلة التهديد والوعيد. وكم من رعيّة أقامت لائحة بالمبالغ المتوجّب دفعها عند القيام بالخدمات الكهنوتيّة، في حين أنّ هذه الخدمات مجّانيّة بطبيعتها؟ وكَم من شاب وشابة تشكّكوا من رخاء ورفاه وبَطرِ بعضٍ من المُكرّسين لخدمة الملكوت، بينما هُم يُكافحون ويُجاهدون ويتعبون ويسهرون من أجل تأمين قسطهم الجامعي؟ وكم من الأشخاص الذين يعيشون في فراغٍ قاتلٍ يجعلهم لُقمة سائغة لتُجّار المُخدّرات وغيرها من أدوات الموت، بينما رُعاةٌ يُمضون أوقاتِهم في تدخين النّرجيلة والسيجار وشرب الكحول ولعب الورق وريادة الكازينوهات، والتسلية والإستجمام في منتجعات الدّاخل والخارج؟ وأعتقد بأن هذه "الكَمّ" لا تنتهي!.
أنأخُذ إذاً على أبناء الكنيسة أنّهم غاضبون بينما يُشاهدون بَطرَ رعاة مُتحكّمون بِزمام السّلطة الإلهيّة، وسيادة الإكليروسيّة التي تُشعِرهُم بأنّهم يقفون أمام طبقة مُخمليّة سلطويّةٍ ضيّعت هويّتها؟ أنأخُذ على أبناء الكنيسة أنّهم مُستاؤون من رُعاة، يَرَون بأمّ العين سياراتهم الفارِهة التي يوازي ثمنها ثمَن شقّة سكنيّة يسعون بشقاء لاقتنائها، وعيشة الرّفاهيّة التي يعيشونها والفخفخة والثّراء وشظف عيش الأمراء. عدا عن الملايين المُمليَنة والمليارات المُمَلْيرة التي يودعون بعضها المصارف المحليّة، ويُرَحّلون بعضها الأكبر إلى مصارف الخارج؟ أنأخُذ على أبناء الكنيسة وبناتها أنّهم يسعَون وراء خيرات الأرض، وهُم يرون بأمِّ العين جشع رُعاةٍ وجوعهم إلى المال والسّلطة وإلى تبوّء المراكز ولو بطُرقٍ ملتوية، ومكائد رُعاةٍ يندى لها الجَبين؟. أنأخُذ عليهم أنّهم مُستاؤون من رعاة وهُم يُشاهدون موائدهم الممدودة التي يُقيمونها بغالبيّتها على شرَف الأغنياء المقتدرين، والتي يَفضُل عنها ما يجرح كرامة الفقراء؟ أنأخُذ عليهم أنّهم بعيدون عن الفضيلة والأخلاق، وهُم يُعاينون رعاة في أسفل السّلم الأخلاقي؟.
برأيكم، أليس لذلك من تداعيات سيّئة على الرّعية؟ بلى. وإن كان هؤلاء الرّعاة يظنّون أن بإمكانِهم بعد الآن، أن يختبئوا ويُخبّئوا عيوبهم في كلامهم المُزَوّق، وداخل جُبَبِهم الفضفاضة وشاراتهم وزنانيرهم العريضة، ووراء أسوار وجُدران مؤسّساتهم ومراكزهم المؤَثِّرة، فَهُم في ضلال. وإن كانوا يظنّون بأن الأمر سيمرّ مرور الكرام بعد الآن، من دون أن يترك آثاراً قاتلة على الرّعية، فهُم في ضلال مُبين، لأنّه لن يفعل؛ "فالزمان الأوّل تَحَوّل"، وما يجري في الخفاء لن يبقى في الخفاء، بل سيُنادى به على السّطوح.
إذاً، ألا يفترض منّا هذا الواقع إعلان ثورةٍ كنسيّة على الذّات عملاً بالمبدأ القائل بواجب "الكنيسة أن تُنقّي ذاتها على الدّوام" على ضوء الإنجيل “ecclesia semper reformanda est”. ثورة كنسيّة ننقضّ من خلالها على الذئب الذي يُقيم فينا بثوب الحمل، فنتمكّن منه قبل أن يتمكّن منّا؟ عقدنا ونعقد المؤتمرات لتلافي التداعيات الماليّة على مؤسّساتنا الكنسيّة، ألا يجدر بنا أن نجتمع فندرس واقع حالنا وشهادتنا وحاضرنا ومستقبلنا ومستقبل شبيبتنا التي تكاد تُفلِتُ من أيدينا، وإعادة النظر في شهادتنا للمسيح والعمل على إحيائها من جديد بما يتناسب مع دعوتنا الأصليّة وروحانيّتنا؟ بلى... بلى... بلى. وأعتقد بأننا إن لَم نفعل، "سيُخاطبنا الله بالأحداث المؤلمة"، على ما قاله اللّاهوتي إيف كونغار. هذا ما حدث لإسرائيل قبل السبيّ إلى بابل... وبعد ذلِك كان السّبي!.