هناك من يعتقد أنّ المشهد السياسيّ اكتمل باندلاع التظاهرات في إيران، بعد انتفاضتين شعبيتين في العراق ولبنان، حيث النفوذ الإيراني غالب وواضح. ولا ينسى أصحاب وجهة النظر هذه، الإشارة الى الاستهداف الأمني الإسرائيلي لـ«حركة الجهاد الإسلامي» في غزة، والتي تشكّل الذراع الفعلية والمباشرة لإيران على الساحة الفلسطينية. فمنذ أسابيع معدودة، كان لافتاً ما قاله مدير العمليات في الجيش الإسرائيلي أهرون حليفا خلال لقائه مسؤولي وزارة المالية، انّ إيران وسّعت دائرة عملياتها ضدّ إسرائيل وأنشأت جبهة جديدة في العراق، وطوّرت قدرات «حزب الله» الصاروخية، وأنّ «فيلق القدس» موجود في الجولان. وأكّد أنّ كلامه لا يأتي في سياق التخويف بغية زيادة موازنة الجيش الإسرائيلي.
وانطلاقاً من ذلك فإنّ حلفاء ايران يضعون الضغط الهائل الحاصل، والذي يشكل تهديداً جدياً لنفوذ ايران، في إطار سعي الادارة الاميركية لإرغام طهران على الدخول في مفاوضات مع ادارة ترامب قبل موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية بعد أقل من سنة.
من هنا يمكن تفسير قيام السلطات الايرانية بقطع الانترنت بشكل كامل عن جميع الاراضي الايرانية، وعلى أساس منع سعي الاجهزة الاميركية المختصة في زيادة تحريض الشارع الايراني وتوجيهه في اتجاه أهداف محدّدة.
في المقابل كان لافتاً ما قاله ديبلوماسي اميركي إنّ بلاده قادرة على اختراق قطع الانترنت. في الواقع فإنّ ايران التي انتهجت خلال الاشهر الماضية سلوكاً هجومياً في معرض صراعها مع الادارة الاميركية، اتخذت قرارها بعدم فتح ابواب التفاوض مع واشنطن على الاقل حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الاميركية.
هي حسمت أمرها بعدم تقديم ما تعتبره هدية انتخابية ثمينة لترامب وسط الحصار الخانق الذي يعانيه داخلياً. لكن هنالك ما هو أبعد، ذلك ان الكثير من المراقبين لا يعتقدون أنّ طهران المطمئنة الى عدم قدرة واشنطن على مهاجمتها عسكرياً ستعاود مفاوضاتها مع الاميركيين بعد الانتخابات الرئاسية.
ففي الداخل الايراني تراجعت الى درجة كبيرة شعبية الاصلاحيين التي يمثلها في السلطة الرئيس حسن روحاني. فهو لم يتمكن من الحدّ من الفساد المستشري في الدوائر الرسمية والمؤسسات ذات الصلة بالدولة، ما سمح للحرس الثوري بتوسيع دائرة رعايته للاقتصاد.
وبالتالي ووفق متخصصين في الشأن الايراني فإنّه لا يوجد لدى الاصلاحيين ادنى فرصة للفوز في الانتخابات البرلمانية عام 2020 أو الرئاسية عام 2021، لدرجة أن البعض يعتبر أن الانتخابات ستشكل فرصة للمحافظين للتنافس بعضهم مع بعض وليس مع الاصلاحيين.
وبالتالي قد يكون جناح المحافظين في ايران الذي لمس عدم وجود نية وقدرة لواشنطن على شنّ حرب مباشرة يريد البقاء بعيداً عن طاولة المفاوضات الى حين إمساكه بكلّ مفاصل السلطة في ايران وتحجيم قوة الجناح الاصلاحي الى الحدّ الادنى الممكن، وهو الذي يعتبر من أنصار فتح ابواب التفاهم مع واشنطن ومعه ابواب التعاون الاقتصادي.
لكن هنالك من يعتقد أنّ واشنطن نجحت في إثارة الشارع الايراني الذي يعاني ظروفاً اقتصادية صعبة نتيجة للعقوبات الجاري تطبيقها على الاقتصاد الايراني.
ومعه فهي قد تكون تراهن على الانعكاسات الاقتصادية القاسية على الايرانيين لا السعي للتدخل المباشر كونها تدرك ان ذلك سيعيد وضع الايرانيين أولوية انتمائهم الوطني على وجعهم الاقتصادي، وأنّ تصريح السفير الاميركي حول قدرة بلاده على خرق منع ايران للانترنت هو أبرز دليل على ذلك لأنّها لن تقدم على خطوة هي قادرة عليها.
ووفق أصحاب وجهة النظر هذه فإنّ ما يحصل في لبنان أيضاً ليس خاضعاً لنظرية «المؤامرة» الاميركية، كون الواقع المزري للادارة اللبنانية وحال الهريان نتيجة الفساد والزبائنية والوقاحة في السرقة تحت ستار المصالح الطائفية هو الذي يدفع بالناس الى الشارع.
لكن هذه المصادر لا تستبعد ان يتبدّل التعامل الدولي مع لبنان في حال تدهور الوضع في اتجاه مواجهات دامية، وهو ما يسعى «حزب الله» لتجنّبه، والمقصود هنا وضع الملف اللبناني على طاولة مجلس الأمن. لكن في لبنان يستمرّ الواقع المالي والاقتصادي تأزّماً بسبب نقص السيولة الاجنبية ووضع المصارف الخطير، وأيضاً ولسخرية القدر بسبب تراجع المخصصات المالية الإيرانية الشهرية لـ«حزب الله» الى حوالى النصف منذ أشهر عدّة.
ولذلك، فإنّ حدّة الأزمة ستبقى في طريق تصاعديّ وهو ما يراهن عليه أطراف الصراع في لبنان في إطار لعبة «عضّ الاصابع».
فهنالك من يراهن على انتزاع إقرار بحكومة تكون له فيها اليد الطولى مع صلاحيات واسعة، وهنالك في المقابل من يراهن على تعب الفريق الآخر، وبالتالي تكريس حضوره السياسي في الحكومة ليكون موجوداً في الملفات الصعبة والحساسة التي ستطرح مثل ترسيم الحدود والغاز البحري والقرارات السياسية الخ...
ولا حاجة الى القول إنّ الصورة مقفلة اليوم، وإنّ المواقف لا تزال جامدة وانّ «حزب الله» الذي يزن كلّ تطور يحصل في الميزان السياسي يتحضّر لأزمة قد تطول أشهراً عدّة.
ويرى البعض في تظاهرات إيران معطى إضافيّاً لزيادة تعقيدات الازمة الحاصلة في لبنان. لكن ماذا لو شكّلت باباً لتسهيل التسوية في لبنان؟ فالأعباء اصبحت كثيرة في المنطقة، والامارات كانت قد ارسلت وفوداً امنية الى ايران اكثر من مرة خلال الاشهر المنصرمة.
هو احتمال لا بدّ من وضعه في الحسبان ولو انّه لا يجب المبالغة بالرهان عليه.