مرة جديدة يجد الجيش اللبناني نفسه نقطة التقاء بين الاطراف المختلفة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وهو اليوم يحضن الاحتفال المركزي لمناسبة عيد الاستقلال، في وزارة الدفاع وليس كما جرت العادة في جادة شفيق الوزان، للاسباب التي باتت معروفة من قبل الجميع. هذه المرة قد تكون الوحيدة، منذ قيام التظاهرات قبل اكثر من شهر، التي يجد فيها المسؤولون الرسميون انفسهم قادرون على التنقل بحرية من منطقة الى اخرى ليجتمعوا في مكان واحد ولمناسبة رسمية. اسقط الجيش بحضوره، كل الذرائع والخلافات السياسية التي فرّقت وتفرّق الاطراف السياسية على اختلافها، ونجح في ردم الهوة (ولو موقتاً) بين الناس والسلطة، فشكّل بالفعل لا بالقول، نقطة تلاق ومساحة التقاط الانفاس للجميع، فيما هو الوحيد الذي يبقى على جهوزيته في كل المراحل وكل الاوقات من اجل تنفيذ رسالته ومهمته الوطنية.
لم تمنع الاشادات العديدة بأداء المؤسسة العسكرية من قبل جهات محلية ودولية من مشاركة اطراف لا تتفق سياستها مع سياسة المشيدين، كما لم يمنع بعض اللوم والعتب من قبل اطراف محلية على "تساهل الجيش مع المتظاهرين" من مشاركة هؤلاء بحماية الجيش والاعتراف بدوره الاساسي في ايام السلم كما ايام الحرب.
هذا بالفعل ما يحتاجه لبنان في هذه الفترة الحرجة من تاريخه، نقطة التقاء تشكل ارضية صلبة تصلح لان تكون ركيزة التفاهم على الاسس الكفيلة في ايجاد الحلول، ليس فقط المرحلية، انما الطويلة الامد لوضع هذا البلد على مسار صحي يلبّي طموحات وتطلعات اللبنانيين. منطقياً، لن يتوقع احد ان يصلح هذا الاجتماع القصير، ما افسدته السنوات الاخيرة وخصوصاً الايام الماضية بين السياسيين انفسهم وبينهم وبين الناس، ولكن لا شك انها ستكون محطة تسمح بالتفكير بشكل اكبر واعمق واكثر هدوءاً لما ينتظرنا جميعاً في المرحلة المقبلة، وحتى لو لم يتم اخذ هذه العبرة، فلا ضير من "استراحة" لبعض الوقت تعيد الامور الى حدود المنطق والتعقل علّها تنفع لتهيئة الاجواء للوصول الى نهاية هذا النفق المظلم الذي دخلنا فيه.
تعددت السيناريوهات السياسية والرهانات على الداخل والخارج، وتغيّرت التحالفات على مدار السنوات، لكن الجيش بقي هو نفسه، بروحيته الوطنية ودوره الذي لا يتزعزع في سعيه للحفاظ على امن لبنان واللبنانيين، ولا شك انه يلعب اليوم ايضاً دوراً محورياً في ابقاء هذا الوطن على طريق الخلاص، وعدم السماح بدخوله المحظور، لانه وعلى رغم المظلّة الدولية الموجودة، فإن هذا القرار يحتاج الى اداة تنفيذية تطبقه، وليس هناك أفضل من الجيش للقيام بهذا الدور الذي نجح فيه اكثر من مرة في السابق، ولن يفشل هذه المرة ايضاً.
صحيح ان رهجة العيد هذا العام ليست كما نرغب بها -ولكنها للامانة- لم تكن يوماً كذلك، ولطالما رددنا ان عيد الاستقلال بعيد بمفهومه ومعانيه عما نعيشه، غير انه وسط كل هذه التناقضات، كان الجيش دائماً رمز الاستقلال الحقيقي الذي يتوق اليه الجميع، وهو جسّد -ولا يزال- كل يوم هذا المفهوم من خلال المناقبية والمسؤولية التي يتحلى بها، وهي الكفيلة في ابقاء الامل في القلوب بأن نصل في يوم ما الى رؤيتنا للوطن المثالي الذي نطمح اليه.
في هذا اليوم الوطني، يحرص الجيش على ضمان غياب السياسة لبعض الوقت عن حياتنا، وهو امر يؤكد سقوط حاجز اساسي من حواجز التلاقي والتفاهم، لتعود بعدها المشاكل الى انتظار دورها في ايجاد الحلول التي قد تطو او تقصر وفق المعطيات واتطورات في المنطقة والعالم. انه تذكير اضافي بوجوب المحافظة على الجيش وصونه وعدم المساس بهيبته وصورته، وفي حال حصول اخطاء بين الحين والآخر، لا يجب لها ان تقضي على كل ما سبق من انجازات واعمال.
علينا الا ننسى ان الجيش هو الورقة الرابحة، ولا يجب التفريط بها.