التاريخ هو الحَكَم لأن التاريخ لا يحكم إلا للإنصاف ولا يعرف أنصاف الحلول وإن حُكم التاريخ لا يقبل المراوغة، وحُكمه مكاشفة واضحة وصريحة في آن واحد، ولا بد له من نطق حُكم العدل المنصف رفضاً للغبن وانتصاراً للحق إيذاناً بإعادة الحق إلى نصابه.
فالتاريخ لا ينام ولا يتوقف عن مسار تدوين الأحداث والتجارب المفصلية المهمة تجده في حالة استنفار دائمة، صفحاته لا تنضب، صمته مرعب وكلامه منصف لا يخطئ طريق العدل، كفيل بإنصاف المظلومين مهما طال زمن المظلومية.
كثيرون هم الذين ظَلَموا عن سابق تصور وتصميم بعدما حجبوا الحقيقة أو زوروها لتبقى بعيدة عن أعين الناس وكثيرون هم الذين ظُلِموا جراء حرمانهم من إظهار الحقيقة بعد نجاح أثرياء سلطة جائرة بشراء الذمم واستبدلوا الضمير بالمال الفاسد والمفسد.
وبين الذين ظَلموا والذين طُلِموا غاب العدل وضاع الحق وساد الغبن والفساد وانتشر الظلم واستبد الظالم بظلمه.
ومع استشراء الفساد هجر العدل قوس المحكمة واحتُجز الحق في جيب الظالم وصودر الفكر والتبصر وصار الانبهار بالمظاهر يحكم المشاعر، فتصدرت لغة الطائفية واستفحلت العصبية المذهبية واختلّ ميزان العقل، حينها هاجرت البصيرة عن معظم البشر رغم نعمة البصر.
قليلون ممن اعتمدوا على البصر لكنهم تخلوا عن البصيرة وأشاحوا ببصرهم عن الحقيقة فأصابهم الصم والبكم والعمى وأجازوا لضمائرهم السفر بإجازة مفتوحة.
فالذين ظُلموا اعتمدوا طرقاً عده لرفع الظلم عنهم، فمنهم من اتخذ القضاء ملاذاً ومنهم اعتمر المنابر لرفع صوته ومنهم عمد إلى اقتحام وسائل الإعلام مدافعاً ومنهم استعمل السوشل ميديا كوسيلة متطورة سريعة الانتشار.
ومن الذين ظُلِموا رجل فريد بأخلاقه العالية احترم التاريخ وانحنى لإرادة الناس، اختزن الإنسانية، تفرد بنزاهة نادرة، مارس الحُكم بشفافية، حكّم ضميره الإنساني والوطني عند كل مفصل حتى إنه سمي بضمير الوطن، إنه الرئيس سليم الحص.
هو أول المنتفضين على الفساد منتصراً لمنطق الدولة مكرساً حياته لخدمة الوطن والمواطن ورد الاعتبار لكرامة الإنسان في وطنه، رفض الانسياق خلف مذهبية مقيتة أو طائفية هدامة، التزم بالمبادئ الوطنية والقومية السليمة مقرونة بشفافية الممارسة مزينة بالعفة والأنفة معطوفة على الإنسانية المطلقة، لكن مضاضة ذوي القربى طالته، في انتخابات عام 2000، المعلبة وألحقت به الأذية والظلم عن سابق تصور وتصميم، فقرر الإنكفاء منسجماً مع نفسه وقناعاته ليبقى نظيفاً تقياً عفيفاً بعيداً عن لوثة التاريخ تاركاً مهمة إظهار الحقيقة لحكم التاريخ بعد أن لجأ إلى قلمه وكتبه التي سطر فيها قراراته الوطنية وأسبابها، إضافة إلى تجارب مسيرة نقية في الحكم لتكون شاهداً على تاريخ ناصع بالنزاهة ينتظر صدور حكم التاريخ المنصف ولو طال انتظاره.
الرئيس سليم الحص، أسقط عمداً بالانتخابات النيابية للعام 2000 عن سابق تصور وتصميم وبقرار مسبق تزامناً مع اختلال وزن الاستراتيجية بين لبنان وسورية وفي لحظة غياب الرئيس حافظ الأسد الأمر الذي أتاح الفرصة أمام الفاسدين الخبثاء في سورية ولبنان تنفيذ قرار إسقاط سليم الحص ليسجل التاريخ سقوط أول رئيس وزراء عربي وهو في سدة الرئاسة.
حشود هائلة زحفت نحو منزل الرئيس الحص للتعبير عن استنكارها ورفضها لنتائج الانتخابات التي أدت لإسقاطه وهو الذي طلب من المحتشدين التزام الهدوء حرصاً منه على عدم إثارة الفوضى وإراقة الدماء بين أبناء الوطن الواحد وما كان منه إلا أن تقدم الحشود مخاطباً بكلمات الشكر لعواطفهم الصادقة يدعوهم لتقبل النتيجة، ومما قاله الرئيس سليم الحص بالحشود:
أثناء الحملة الانتخابية رفعت شعاراً يحترم إرادة الناس وهو «إن صوتم لنا نعتز بصوتكم ونفخر به وإن صوتم ضدنا سنحترم إرادتكم وننحني لها» وها نحن اليوم وفاءً لشعاري وانسجاماً مع نفسي أنحني لإرادة الناس وأقول لأبناء بيروت شكراً.
وأضاف: أعلن أنني ومن هنا قرار عزوفي عن ممارسة السياسة اليومية لأتفرغ للعمل الوطني والقومي. وختم خطابه بالحشود قائلاً: لقد هجرت قلمي ردحاً من الزمن نظراً لانشغالي بخدمة الوطن والمواطن ولم أندم على شيء قمت به أو على قرار اتخذته لأن كل ما فعلته نابع من ضميري واليوم أعود إلى قلمي وكتاباتي خدمة للأجيال القادمة وأنا متأكد أن التاريخ سينطق الحكم العادل وسيكون الحكم على ما كل ما قمت به.
أذكر يومها أن الرئيس سليم الحص دخل علي في مركز الحملة الانتخابية وجدني مصدوماً غارقاً بالبكاء فما كان منه إلا أن احتضنني مربتاً على كتفي، وقال لي: كف عن البكاء هذه إرادة الناس وعلينا احترام إرادتهم وتقبلها واترك للتاريخ كتابة قصة الإنصاف وإحقاق الحق.
لكن الرئيس سليم الحص ومع لحظة إعلان السقوط المدوي أدرك أن القصد من إسقاطه هو إسقاط المشروع الوطني الهادف إلى بناء دولة المؤسسات المؤهلة إجراء إصلاحات اقتصادية ومحاربة الفساد والهدر وسرقة المال العام الذي حصل في عهود سابقة، كما أدرك الرئيس سليم الحص أن سقوطه بالانتخابات جاء بعد ثلاثة اعتداءات إسرائيلية متتالية شنت على لبنان المقاوم في عهد الرئيس العماد إميل لحود وحكومة الرئيس سليم الحص التي آمنت بوحدة المسار والمصير مع سورية العروبة واحتضنت ودعمت المقاومة اللبنانية ما أدى إلى نجاح عهد الرئيس لحود وحكومة الرئيس الحص في تحقيق أول نصر عربي على العدو الإسرائيلي تمثل بتحرير الجنوب اللبناني من احتلال إسرائيلي دام لأكثر من 25 عاماً وهذا ما لم يعجب الفاسدين الخبثاء في سورية ولبنان ممن باعوا أنفسهم وضمائرهم خدمة لأعداء الأمة فأباحوا استعمال جميع الوسائل الدنيئة بهدف إسقاط لبنان القومي العربي وفصله عن سورية العروبة المتمثل بالرئيس سليم الحص.
سليم الحص كان متيقناً من إنصاف التاريخ واحتراماً منه لتاريخه النقي لم يلجأ لأساليب تقليدية بقصد رفع الظلم عنه بل إنه اختار أسلوباً فريداً لإظهار الحقيقة فقرر العودة إلى قلمه الذي هجره ردحاً من الزمن خدمة للأجيال القادمة للاقتداء بتجربته الرائدة في كيفية ممارسة المسؤولية الوطنية بضمير خالص وخدمة للتاريخ.
لبنان اليوم يمر في أحلك ظروفه الأمنية والاقتصادية جراء فساد مستشرٍ ونتيجة المحاصصة المتبعة بين أهل السلطة الغارقة بالفساد والنهب المنظم لأموال الدولة في زمن صار فيه البحث عن مسؤول نزيه متعفف ضرباً من ضروب الغرابة.
لبنان المنتفض يستغيث بسليم الحص صاحب المدرسة الرافضة لكل أشكال الفساد البعيد عن أي مصلحة شخصية، المتفاني في خدمة الوطن كل الوطن، المتعفف صاحب الضمير الوطني العروبي.
اللبنانيون لجؤوا للتاريخ فلم يجدوا مفراً من الاعتراف بالخطأ والظلم الذي لحق بسليم الحص، يستميحونه عذراً لما اقترفوه بحقه فكان التاريخ الحُكم والحَكم.