«يوم كانت كلماتي غضباً كنت صديق السلاسل يوم كانت كلماتي ثورة كنت صديق الزلازل يوم كان كلامي حنظلاً كنت صديق المتفائل يوم صار كلامي عسلاً غطّى فمي الذباب» (محمود درويش).
منذ حوالى السنة كتبت المقالة التالية، ولست متأكداً الآن إن كانت نشرت أم لا، ولكنني وجدت فيها اليوم ما يعبّر عن أهم أسباب الثورة حاليّاً. الواضح هو أنّ الناس أخرجوا رؤوسهم من الرمال، فيما السلطة ما تزال في حال نكران.
«لا يا أصدقائي ممن ما زالوا يقرأون المقالات، وأعلم كم أصبحوا كالجنس الآيل إلى الانقراض مع زوال ما تبقى من حضارة ورقية كانت أساس تقدّم البشر! لا يا أصدقاء «مش ماشي الحال»! لم تعد سياسة النعامة قادرة على تحمل آثامنا بحق أنفسنا.
لا يمكن أن نستمر بالحديث المكرر حتى الضجر عن صيغة لبنانية فريدة وهي لا تمت إلى الصياغة بشيء! فالصيغة تحتاج لصايغ حرفي يفهم سر التناسق ومعنى الجمال وقيمة الذوق. وصيغتنا اليوم كما هي، تحتاج الى سمكري متخصّص في فتح مجارير الصرف الصحي المتخمة بالقاذورات التي نرميها بخبث وتجاهل في سياساتنا وطائفيتنا وإداراتنا ووسائل تواصلنا بمختلف أشكالها، والتي تحولت إلى مواقع صدام بدل الوصال.
ولم يعد ممكناً الحديث عن الشراكة الوطنية بعد أن حمّلناها كل آثام المحاصصة والإقطاع والفساد والهدر والصناديق المناطقية والمذهبية التي يمتص الزعيم المهيمن عليها نصف ما يدخلها، ويقنع أتباعه بأنه لولاه ولولا بلطجته لما تمكّنوا من استلباص النصف الآخر!
لم يعد من الجائز الحديث عن دولة مؤسسات في حين أنّ كل مؤسسة، أمنية كانت أم مدنية، علمانية أم دينية، مرتهنة بالكامل لأهواء الإقطاع السياسي المذهبي الذي تم توزيع السلطة الإنفرادية على كل مؤسسة منها لزعيم من مذهب محدد ليحولها إلى مزرعة خاصة به.
ولم يعد من الحق الحديث عن الحق والقانون، وقد صارا استنسابيين طائفياً ومذهبياً، ابتداء بحرية التعبير، وصولاً إلى حمل السلاح خارج سلطة الدولة.
فيحاكم ويسجن ويغرّم فلان لأنه عبّر عن رأيه، ويترك فلان، ولو قبض عليه متلبساً بجريمة شائنة. ويسجن فلان من دون أن يحاكم لسنوات تأكل من شبابه ومن براءته، لمجرد معطيات ظرفية وجدت على هاتفه النقال، ويكرّم فلان آخر كمقاوم ومجاهد قاتل وقتل ودمّر وفجّر بالجرم المشهود، والبعض منهم يصبحون قديسين!
ولم يعد منطقياً المقارنة بين مسؤول يسعى لحقن الدماء ووأد الفتن وتوفير الفرص للأمل وتأمين الاستقرار، وآخر لا يتردد ولا يندم على التهديد والوعيد ويدعو الناس الى عصيان القوانين ويبتزّ الناس بأمنهم ومصالحهم.
لكن ذاك المسؤول الحريص والغيور على الدولة يبدو اليوم كسائح سارح في دنيا الأوهام، لا يعترف بالواقع المر لمجرد المحافظة على التفاؤل! الواقع هو أنه «لم يعد ماشي الحال»، والواقع هو أنّ أغنيات العيش المشترك والصيغة الوطنية الفريدة ودولة المؤسسات والقانون لم تعد تطرب أسماعنا.
نحن في حاجة الى أن نخرج رأسنا من التراب والتوقف عن اللف والدوران، والبدء بدل ذلك بقول الحقائق المرة حتى نحظى بفرصة، ولو ضئيلة، لانتشال أبنائنا من يأسهم من أحلام مرقد عنزة في ربوع الوطن. علينا أن نعترف بأننا بالرغم من كل المآسي والأهوال والنكسات التي نكلنا بأنفسنا بها لم نأخذ العبر، ولم نتمكن من تركيب وطن يضم مواطنين، إلا من خلال المرور بالفردية والعشائرية والمذهبية والطائفية.
لم نتفق لا على رؤيا ولا على هدف ولا على شهيد ولا على أي شيء. ومع ذلك فلا بأس، فالإختلاف نعمة تمنع التفرد. لكننا لم نتمكن من تنظيم اختلافنا من خلال منظومة سمّيناها ديموقراطية لتسهيل اتخاذ القرارات بالرغم من الاختلاف. فعجزنا عن فهم مبدأ الحكم والمعارضة، واخترعنا منظومة إسمها الديموقراطية التوافقية لمجرد التلاعب والتذاكي على الديموقراطية. ولكن علينا اليوم أن نفهم أنّ هذه الديموقراطية الشوهاء لم تنتج سوى مزيد من التعطيل وضياع الوقت بحجة الحفاظ على مبدأ العيش المشترك.
أنتجنا حكومة بعد طول انتظار فيها المعالم ذاتها التي هي أصل البلاء، مجموعة من المصالح المتقاطعة، يحرد البعض فقط لأنّ حصته غير ملائمة لتطلعاته، ويُناكد فقط لأنّ وضعه الزعاماتي تعرض للمشاركة، وربما من دون وجه حق، لأنّ طرفاً آخر أراد فقط أن يعلّمه الأدب! ومع ذلك فإننا نتأمل خيراً لمجرد أننا لا نملك غير الأمل حفاظاً على نفوسنا من اليأس القاتل.
ببساطة علينا أن نتوقف عن قول الكلام المعسول، فقد غطى أفواهنا الذباب المتنقل بين أكوام النفايات المتراكمة وأقنية الصرف الصحي التي فجرتها الأمطار. فمن أجل ما تبقى لنا من وطن، علينا انتشال رؤوسنا من الرمال والذهاب لمواجهة الواقع وهو أنّ مجتمع القبيلة لا يبني وطناً. علينا أن نسمع قول المسيح «كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار» (مت 19:7)، علينا أن نفهم أنّ الترميم لا ينفع في حالة لا ينفع فيها إلّا «التدمير الإبداعي».