في الساعات الأخيرة، بدأ شيءٌ ما يَتحرَّك جدياً. فاللاعبون على حافة الهاوية اكتشفوا أنّهم لم يعودوا هناك. لقد بدأت أرجُلُهم تنزلق... وبسرعة. وهناك، في القعر، قد يتلاقى الذين تباعدوا فوق. ولكن، لن يجرؤ أحد على الادّعاء أنّه انتصر. هناك، في القعر، لا وقتَ ولا مكان إلا لإحصاء الخسائر وتعداد الضحايا...
لماذا كانت «ليلة الرينغ»، فجر الإثنين، عنيفة إلى هذا الحدّ؟ أي لماذا تحرَّك مناصرو «أمل» و»حزب الله» بهذه الكثافة والحدّة لإثارة مواجهةٍ شارعية أو مشهد صِداميّ استثنائي، مع أنّ الحراك الشعبي حينذاك لم يكن استثنائياً في «الرينغ»، لا في حجمه ولا توقيته ولا استهدافاته؟
والاعتقاد الغالب هو أنّ مناصري «الثنائي» لم يتحرّكوا إلا بتغطية قيادية. ففي لبنان، قد يقوم بعض المتحمسين لأي حزب أو زعيم بعراضات فردية، لكن مبادراتهم تبقى محدودة نوعاً وحجماً وتوقيتاً. وأما «ليلة الرينغ» فكانت عكس ذلك.
إذاً، «الثنائي» أراد تثمير ما جرى في السياسة. وقد يتكرَّر هذا المشهد في الساعات أو الأيام القليلة المقبلة. ويبدو منطقياً طرح تفسيرين لما جرى:
1- التفسير المباشر والتلقائي، وهو أنّ «الثنائي» بوصفه النواة الصلبة للسلطة القائمة اتخذ قراره بالانخراط في مواجهةٍ ميدانية مع الانتفاضة، مهما كانت مكلفة، بعدما التزم التحفّظ منذ 17 تشرين الأول خوفاً من تداعيات أمنية خطرة.
في هذه الحال، يُخشى أن يتجّه الشارع، بعد اليوم، نحو العنف، مع ما يعنيه ذلك من إحراجٍ شديد للجميع: الانتفاضة و»الثنائي» وأجهزة السلطة من جيش وقوى أمنية وقضاء وإدارات، إضافة إلى التداعيات التي لا يمكن تقديرها سياسياً وطائفياً ومذهبياً وطبعاً اقتصادياً ومالياً.
هذا التفسير ليس هو المرجَّح. فالسلطة وأحزابها ستتضرَّر من العنف والفوضى أكثر من المعترضين في الشارع. و»حزب الله» الذي تغطّى دائماً بالتركيبة القائمة منذ 2016 سيتجنَّب انهيارها تحت وطأة الفوضى.
2- التفسير الآخر الذي قد يكون أكثر واقعية، هو أنّ هذه «الهجمة» تحديداً، هجمة «الرينغ»، أراد منها «الثنائي» توجيه رسالةٍ سياسية لا إلى الانتفاضة، بل إلى الولايات المتحدة تحديداً، وإلى الوسطاء الذين يتحرّكون لتجنّب الأسوأ، ولاسيما فرنسا وبريطانيا.
مَفادُ هذه الرسالة: نحن هنا. لا يمكن للأميركيين أن يعزلونا عن السلطة. لنا الغالبية النيابية، ولنا القرار في الحكومة التي نستطيع إبقاءها في وضعية تصريف الأعمال، ولنا التمثيل في شارعنا، ولنا سلاحنا الوازن… ولو لم نستخدمه!
وكان «الحزب» قد أبلغ إلى الموفد الفرنسي كريستوف فارنو، قبل أيام، أنّه يوافق على النظرة الفرنسية إلى الملف باعتبارها منطَلقاً لتسوية ممكنة. وهذه النظرة تقوم على تأليف حكومة جديدة لا تستبعد أياً من القوى السياسية، ولكن بشخصيات معتدلة وغير مستفزة.
لكن غالبية الحكومة تكون من وزراء تكنوقراط يمسكون بالوزارات المعنية، خصوصاً بالإصلاح الإقتصادي والمالي والإداري والقضائي، ومعروفون بسجلِّهم النظيف ويوحون الثقة. وترتكز الحكومة على برنامج ونهجٍ إصلاحيين يُرضيان الانتفاضة.
أعلن الأميركيون في لقاء باريس الثلاثي مع البريطانيين، الأسبوع الفائت، رفضهم استمرار نفوذ «حزب الله» في الحكومة الجديدة. وتمسّك مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر بحكومة تكنوقراط لا يشارك فيها «الحزب». وانتهى اللقاء ببقاء الاختلاف مع الفرنسيين.
على هذا الأساس، تحرَّكت وساطة بريطانيا من خلال مدير الشؤون السياسية في الخارجية ريتشارد مور، الذي جاء يستطلع المناخات قبل العودة إلى لقاء ثلاثي جديد في باريس، مطلع كانون الأول المقبل.
وأهمية هذه الوساطة تكمن في أنّ بريطانيا تتموضع في المنتصف بين فرنسا والولايات المتحدة، وهي تشارك الأميركيين موقفهم من «حزب الله»، أي أنّ واشنطن مهتمة بهذه الوساطة. وفي الموازاة، سترسل موسكو موفداً لها إلى بيروت هذا الأسبوع.
لقد ضغط طرفا المواجهة الداخلية إلى الحدّ الأقصى لرفع السقف في لحظة التفاوض الحسّاسة. فالانتفاضة كانت قد أعلنت ليلاً يومَ عصيان كبير، وردَّ «الثنائي» فجراً بأوسع عرضٍ للقوة. ثم هدأ الجانبان نهاراً مفسحين المجال لحركة الموفد البريطاني.
في الخلاصة، تلوح فرصةٌ لتسوية مرحلية بدافع الخوف من انكشاف الانهيار المالي وسقوط البلد في فوضى شاملة يصعب فيها على أي كان تحقيق أرباح، ويخشى الأوروبيون أن تقود إلى مأزق اجتماعي- أمني ينعكس على مجتمعاتهم من خلال ملف النازحين.
ولأن الأميركيين يواجهون «حزب الله» بصفته ذراعاً لإيران، لا حزباً لبنانياً، فإنّهم على الأرجح سيمضون في المواجهة حتى حسم ملف الصراع بصفقةٍ ما مع إيران. ومن جهته، لن يتراجع «الحزب» إلّا بناء على صفقةٍ ستُبرَم في النهاية بين واشنطن وطهران.
ولكن، قد يقتنع الجانبان، بتشجيع أوروبي، بأنّ من الممكن عقد تسوية مرحلية في لبنان، من خلال حكومة يلتقي عليها الجميع، أي تلتقي مع الكثير من طموحات الانتفاضة في تركيبتها ونهجها وبرنامجها وأدائها الإصلاحي. ولكن، لا يملك «حزب الله» غالبية فيها، لكنها لا تستفزه هو وحلفاءه.
كأن هذه الحكومة تستجيب ما طالب به السعوديون، قبل عامين، خلال أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري. فهي ستأتي ثمرة تسوية يعتبرها الجميع مرحلية، بما يتيح تحصيل أموال «سيدر» ومساعدات الخليجيين العرب ومؤسسات التمويل الدولية وتحريك أموال المغتربين.
كما يتيح إرجاع بعض من المال «الهارب» من القطاع المصرفي إلى الخارج أو إلى البيوت، ما يرفع لبنان من «تحت الصفر» إلى الصفر أو ما فوقَهُ بقليل. وبعد ذلك، يمكن التوجّه إلى خيار جديد، بناء على معادلات القوة التي تفرض نفسها في حينه.
هل هذه التسوية واردة؟
المخاوف الداخلية تدفع إليها، وربما مصالح القوى المعنية إقليمياً ودولياً. ولا يبدو منطقياً كلام البعض عن مصلحةٍ لإيران في اللعب «صولد» في لبنان، ولو انهار الهيكل… كما أن لا مصلحة «الحزب» نفسه خارج الاعتبار اللبناني.
فـ«حزب الله» يمتلك من الذكاء ما يكفي ليعرف أنّ السقف- إذا وقع - سيهبط على رؤوس الجميع، وربما على «الحزب»، قبل سواه، وأكثر من سواه.