"لا تنسَ أنّكَ من أشلاء مجتمعٍيَدين بالحقدِ والثارات والدجلِ" للشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري.
لن أبدأ مقالي بمقدمة تقليدية للتعريف بكاتب ما أو بنظريته، إذ يكفي أن نعالج ما كتبه كمحاولة لفتح الباب أمام تحليلات وانتقادات وتعقيبات على آرائه وإسقاطها في الميدان، فالملاحظات التي صاغها لوبون عن سلوك الجماهير لا ينبغي أن نمرّ عليها بلا إدراكٍ مسبق للمشتركات بين العوام إذ تظلّ سيكولوجية الجماهير حالةً فطريّةً عند أيّ جمهور على مستوى السلوك بينما قد تختلف خلفياتها ومحرّضاتها وأهدافها بين جمهورٍ وآخر، وبالتوازي مع "غوستاف لوبون" لا بدّ من فهم سيكولوجية الفرد والإنسان المقهور حسب تعريف "مصطفى حجازي" كي نعي الحالة الفردية والحالة الجماعية التي تطغى على الوعي في الحالة الأولى لتذوب ضمن الحالة اللاواعية الجماعية في الحالة الثانية.
إنّ الخلفيّة الفكرية والثقافية والعقائدية الخ.. التي تطبع جماعةً ما بسماتٍ محدّدة وبروحيّةٍ خاصّةٍ تشكّل مدخلاً مؤثّراً في سلوكها وتحريضها وجرّها عبر وعي الأفراد إلى لاوعي جمعي..قد لا تحمد عقباه. وهذه الخلفية المشتركة حسب لوبون هي ما يسمّيها بـ"العرق" بمعناه السلوكي والبسيكولوجي والروحي وليس بمعناه التقليدي... وهو الذي يختلف بين مجتمعٍ وآخر وبالتالي تختلف معه محرّضاته وأساليب ديناميته.
ولذلك فإنّ الدراسات الإستشراقية التاريخية لا تخلو بتاتاً من دراسات لنفسية الشعوب التي ينوي المستعمِر أن يستعمرَها، من أجل فهم أفعال شعبٍ ما وردود أفعاله وأولوياته ومحرّضاته، فبين دفاعك كجماعة عن عقيدة دينية تؤمن بها حتى النخاع وبين الدفاع عن الأرض والوطن ثمة سؤال يشغل بال المحتل: ماذا يسبق ماذا؟ ففي حالة الهند زمن الاستعمار البريطاني كانت تُذبح الأبقار أمام الهندوس ويُفجّر المسجد أمام المسلمين ويتمّ اتهام بعضهم بعضاً فكانت تقوم الصراعات الداخلية أمام بهجة المستعمِر الذي عرف مسبقاً أنّ أولويتك اليوم العقيدة وليس الأرض وأنّ سلوكك العنفي موجّه لشريكك المستعمَر وليس لعدوّك المستعمِر.. وقس على ذلك القضية الفلسطينية فهل تراها اليوم مسجداً أقصى كمسلم؟ أم قضيّة عربية كقومي؟ أم قضية أعمق وأوسع كحقّ وجود كجندي أحمر ياباني مثلاً؟.
رُبّ قائلٍ اليوم أنّ الإستشراق مضى وولّى ولكن لم ينتبه أو لا يريد أن ينتبه أنّ الإستشراق طوّر ميكانيزم سلوكياته وآلياته عبر منظمات دولية غير حكومية تدخل إلى وعيك ونفسيتك بصفتك لاجئ أو متخلّف تربّيك كما يليق بأهدافها لإحداث فوضى في أولوياتك ولامتصاص أيديولوجيتك ولاستلاب ثقافتك ولخلخلة انتمائك واستغلال حقدك كلاجئ على كيان دولتك بهدف الدخول لوعيك بشعارات ووعود وأحلام من أجل توظيف لاوعيك بما يتناسب مع طروحاتها الغربية على اعتبار منطقي أن من يقود الجماعة مجموعة أفراد عاقلة، فحروب الجيل الرابع الناعمة اليوم التي تلعب على طيبتك وتنساب إلى غاياتك لاستمالتك والتي تواكب سلوكياتك عبر وسائل التواصل أم عبر الاحتكاك مع "المستغربين" ما هي إلا حروب وعي ورؤى بين جمهور متخلف وسلوك لا يريد الحقيقة.. وبين قوى قادرة على احتوائك واحتواء ميولك الجديدة!.
وهذا فعلياً ما يحدث في الحالة الجماهيرية العربية والآن اللبنانية، ليس لأنّك كفرد لبناني تمّ استغلالك فقط بل كذلك لأنّك فردٌ مقهورٌ إجتماعياً وإقتصادياً تم استغلال محرّضاتك المعيشية والإقتصادية لتنتفض محقّاً بشكل "عفوي" وبلا وعيٍ جماعي تلاشت به شخصية الفرد اللبناني الواعي، فنزل متحمّساً بلا برنامج واضح أو قائد يقود لذا ابتدأت في بداية الإنتفاضة أعمال الحرق والتكسير والعنف والحماس المفرط كطبيعة سيكولوجية نفسية تقضي على خوف الأفراد وبموازاتها حقد فرد مقهور من "المتسلّط" عبّر عنه بالأذية المحقّة للأملاك لاعتبارها جزء مادّي من أجزاء السلطة المعنوية-الدولة، فنفّس غضبه الذي ما كان لينفّسه لو لم ينصهر ويذب ضمن الجمهور بسبب الرادع الواعي المتهدّم في حالته الجماهيرية.
إنّ المحرّضات التي قد تدفع الناس للثورة أو الإنتفاضة لا يمكن حصرها، ولكن أغلبها عبر التاريخ دينية واقتصادية/اجتماعية ولا أبالغ إن قلت أنّ معظم المحرّضات تاريخياً أهدافها سياسيّة، وقد تختلف هذه المحرّضات ضمن المجتمع الواحدبين جماعة تحرّكها العصبيّة الدينية وأخرى الظروف الإقتصادية/الإجتماعية، فحين يتمّ الحديث عن "شارع ضد شارع" أو التهويل بحرب أهلية فهو حديث يدفعنا إلى تصنيف المحرّضات والمؤثرات والجماعات... فمثلاً تظنّ فئة من اللبنانيين أنّ الإنتفاضة موجّهة ضدّها، ضدّ سياسييها أو طائفتها أو مشروعها، بحجج محرّضات إقتصادية واجتماعية يعترفون بأحقّيتها ويستنكرون شعاراتها ويحاججون بغياب قادتها أو قد يتوجّسون منها(منظمات، سفارات، أحزاب..) ولذلك أنزلت جماهيرها وفق المؤثرات السابقة الذكر(السياسية حصراٌ) وعنّفوا وكسّروا وهدّدوا الخ...
الجماهير لا تبحث عن الحقائق والمنطق والأرقام رغم منطقية وأحقّية مطالبها ولكنّها تبحث عن عصا سحريّة أمام ترسانة سلطوية محصّنة بكل ما ملكت أيمانها طائفياً وسياسياً وجماهيرياً وقضائيّاَ وماليّاً وإقتصادياً.. وبالتالي تتوهّم تلك الجماهير بعد عقود من قوقعتها الطائفية والمناطقية التي تجذّرت في بنيتها البسيكولوجية وأجبرتها أوتوماتيكياً في أن تتعامل رومانسياً مع الواقع الجديد بأن أصبحت فجأة وطنيّة ذات مشروع إصلاحي وطني وأنّ تحوّلَها الإجتماعي حدث عبر احتكاكها بفانوس سحري حقّق المواطنية الإجتماعية.
في علم الإجتماع ، يقول دوركهايم أنّ الأزمات امتحانٌ للجماعة لأنّ القاعدة الإجتماعية في المجتمعات المركّبة بحسبه تقول:بأنّ عند الأزمات يلجأ الأفراد إلى انتماءاتهم الميكانيكية الأولية(الطائفة- العشيرة- العائلة..) والوطنية لا تُقاس بتحيات بين منطقة ذات غالبية طائفية وأخرى عبر الهتافات التي تردّدها الجماهير بلا وعي و بحسّ عاطفي، بل تُقاس عندما كلّ فرد من الجماعة يخلق تلك المساحة المشتركة بينه وبين الآخر ويتقبّلان بعضهما لتنتقل العدوى الإجتماعية.
وبالمقابل في علم السياسة، فإنّ الإنتقال من نظام طائفي يمثّل هويتك ودولتك وكيانك إلى نظام مدني فعلي عابر للطوائف ليس بالأمر السهل، فالجماهير قد تقبل الآن العلمانية والمدنية وتهلّل لها لأنّها جماهير رغم تصويرها إعلامياً أنّها مثالية إلاّ أنّ طبيعتها الفطرية النفسية والعقلية الحماسية اللاوعية تصفّق وتتحمّس لأي هتافٍ فردي واعٍ، فأنت الآن إن اخترت عيّنةَ فرديةّ من كل منطقة من مناطق الإنتفاضة وسألتها عن الدولة المدنية أو عن النظام العلماني، برأيك ما الجواب؟ لا شكّ سلبي! لأنّ حالتها الواعية أصبحت أكثر حضوراً بحالتها الفردية وذاكرتها أكثر استرجاعاً، فهي بالسابق كانت تعدّ العلمانية كفراً وكرهاً لطائفتها فكيف تقبلها؟ والمدنية تعني لها نقص من امتيازات طائفتها فكيف تروّج لها؟ إذن التحوّل الثقافي الاجتماعي السياسي وارتفاع الوعي عند الجماهير ينبغي أن يعمل على تبلورها عبر تكرارها في أذهانهم ونفسيتهم لتأكيد حضورها ميدانياً ومن ثمّ تنتشر كالعدوى بين الجماعة، وهذا يعتمد على كاريزما القائد بشكل عام ولكن نظراً لغياب قيادة واضحة ومحدّدة في لبنان فإنّ "كاريزما الأفكار" المطروحة تشكّل هالة وحالة جماهيرية متّفق عليها بدون أدنى معرفة حقيقية لأبعادها ومفهومها، فالغالبية العظمى لا تعرف ما معنى تكنوقراط أو تكنوسياسي ولا تفهم معنى خدمة الدين ولا معنى الليبرالية والإشتراكية كبرامج بديلة.. والأهم فإنّها لا تعرف كيفية التغيير الحقيقي لأنها جماهير عاطفية تهتمّ بسلسلة بشرية أكثر من حلقات نقاشية في الساحات، وبالموسيقى والرقص أكثر ممّا تهتمّ بالفهم الطبقي لصراعها وجوهره.
لا يهمّ أن يكون الأفراد ضمن الجماعة واعيين وعاقلين لتوجيه المسار أو تصحيح الوجهة أو تفنيد البرامج، كم عدد الأفراد الذين يفهمون طبيعة انتفاضتهم اليوم؟ كم عدد الذين يدركون أن الحل هو بضرب المصارف والإعتصام أمامها بل وداخلها؟ يكاد لا يُذكر العدد لأنّ الحماس الجماهيري وغياب التفكير النقدي والمشاعر اللاهبة لا يهمّها الوجهة الصحيحة ولا الصدق أو الحقيقة بل همّها الفعلي "الإنفلات"، الغضب التنفيس أينما كان وكيفما كان، فقطع الطرقات أمام الأفراد تعبير عن صراعها الطبقي والمطلبي؟ هل هو ضدّ الفساد والفاسدين؟ أم عمل ثوري غير واعٍ؟
ولأنّ سيكولوجية الجماهير حماسية وواهمة وتلحق الصورة المؤثرة والعاطفية فإنّ الإعلام والأغاني الوطنية والرموز والهتافات هي جوهر تعبيرها وملاذها أمام الإنطفاء، فالصورة الإعلامية المؤثّرة يحرّكها أفراد عاقلون وإلا لماذا الشهيد علاء بو فخر أصبح أيقونة روّجها الإعلام واحتار كيف يبكينا رغم أنّ الشهيد حسين العطار الذي سبقه لم يكن بتلك الأهمية ورغم أنّ الشهيدين سقطوا خلال الانتفاضة؟؟ هل ربّما لأنّ اللاوعي الجمعي الجماهيري أصبح أكثر نضوجاً في البنية البسيكولوجية الجماعية في الحالة الأولى ممّا هو عليه في الحالة الثانية؟؟ ربّما.. فلنسأل الإعلام! ولنسأل أنفسنا عن الدور الذي لعبته قناة الجزيرة خلال الربيع العربي؟ ألم يكن دورها الموجّه والإنحيازي خطيراً على تبنّي الشعب العربي آراء وتحليلات خاطئة هدفها التأثير في نفسيته لأهداف سياسيّة حصراً؟ ألم يكن دورها إحترافياً؟.
إنّ الجماهير بطبعها وطبيعتها جاهزة ومهيّأة لأي اقتراح أو برنامج يسوّقه الأفراد على أنّه البديل المضاد والنقيض للحالة السابقة، وإلاّ كيف يمكن فهم سرعة طرح الأفكار والنقاط والأولويات أمام الجمهور والذي تقبّلها دون تفنيد أو مناقشة؟ يكفيه الجمهور أنّ تُريه بديل ليكون خلفك.. فماذا يفهم الجمهور من الحكومات الانتقالية الإنقاذية؟ أو من الإجراءات الدستورية؟ هل كانت تفهم الجماهير الفرنسية أثناء ثورتها معنى الإنتقال من الملكية للجمهورية؟ أو معنى الديموقراطية وحكم القانون الوضعي؟ وبالتالي فإنّ الجماهير جاهزة لتحقيق أهداف الأفراد طالما استطاع الأفراد العاقلون أن يجدوا المحرّضات المناسبة للجماهير.
في الخلاصة، إنّ التغيير السلمي والعنفي من سُنن التاريخ ولا شكّ أنّ هذين النوعين يحتاجان لقاعدة جماهيرية ومحرّضات وحشود وإعلام ومؤثرات والأهم لخطاب عاطفي يحكّ لاوعي الجماهير ويدغدغ سلوكهم السيكولوجي. فالإنتخابات والثورات والحروب والجهاد... كلها أدوات سيطرة وتغيير يرسم أطرها العاقلون وينفّذها الواهمون.
إنّ تشكيل كتلة تاريخية(مجتمع مدني غرامشيّ الفهم) مهيمنة سياسياً في الدولة هو عمل ضروري وصعب، ضروري لأنّ التغيير بالمفهوم الغرامشي/الإشتراكي أصبح حاجة أمام الوضع الراهن، وصعب لأنّ فرض هيمنتك الثقافية ومنظومة قيمك بالقوة الناعمة عبر الأطر النقابية والأهلية والإعلامية والدينية والتربوية والإقتصادية.. وحيث المفروض عمليات التثقيف والتربية والتوجيه والأدلجة أن تأخذ مداها أفقياً وعمودياً في مجتمع مركّب و غير متجانس هي مهمة صعبة ولكن ليست مهمّة مستحيلة إن استطعت عبر العمل السياسي في تفنّن تغيير الواقع(كان هادي العلوي يعرّف السياسة بأنّها فنّ تغيير الواقع لسعادة الشعوب وليست فنّ الكذب) أن تستميل جميع الفئات في مجتمعك تحمل مشروعك وتؤمن بأهدافك.. يكفيك إقتصاد واعٍ لمصالح الشعب وإنماء عابر للجميع وحنكة وإرادة سياسيتين والأهمّ في ظلّ الواقعية السياسيّة الدولية فأنت لا شكّ بحاجة لتحالفات إقليمية ودولية حكيمة ورصينة.
في معركة ستالينغراد لم ينتصر الروس ضدّ الألمان لأنّ عتادهم وسلاحهم أقوى بل لأنّ نهجاً سياسيّاً حكيماً روّج للوطنية على الدوام في نفسية الجماهير وعمّق إيمانهم الوجودي والمعيشي فكانوا يقاتلون ليس دفاعاً عن الأرض وحسب بل إيماناً منهم بأنّ المصنع لهم والإنتاج لهم والقيمة لهم والأرض لهم... انتصر الروس لأنّ إيديولوجيةّ "التحرير والتحرّر" كانت الحدث الواقعي في سيكولوجية الجماهير وفي وعيهم اليومي... فهل من يتّعظ!؟.