بعد أن كان رئيس الحكومة العراقي عادل عبد المهدي يحظى بدعم المرجعيّة الدينية في النجف الاشرف لاستمراره في منصبه، جاءت خطبة الجمعة الأخيرة لتعلن انتهاء هذا الدعم، فأعلن عبد المهدي نيّته رفع كتاب رسمي بطلب الاستقالة من المجلس النيابي، وذلك بعد الدعوة الواضحة من المرجعية للمجلس بضرورة إعادة النظر بخياراته الحكومية. فكيف يبدو الوضع العراقي اليوم؟.
في الحراك العراقي اليوم ثلاثة أمور أساسيّة، فهو انطلق ولا يزال يحمل مطالب اجتماعية واقتصاديّة صادقة، وجاء نتيجة الفساد والظلم الاقتصادي والاجتماعي، والتأخر بالخدمات الضروريّة للناس على كل الصعد، والملامة تقع اولا وأخيرا على الدولة، والأحزاب العراقية التي خاضت الانتخابات الأخيرة وكل انتخابات تحت عنوان الاصلاح ومحاربة الفساد، ولم يطبق منها شيئا الا إيجابية وحيدة هي تعطيل مشروع "داعش" بشكل شبه نهائي.
المستجدّ اليوم بحسب مصادر متابعة هو أن مسار الأمور بات بمكان لا يخدم المطالب الأساسية، بل توجه للسياسة ضمن أربع عناوين أو أهداف هي: أولا، الإطاحة بالسلطة بلا التفكير ببديل، وهذا ما لن يحصل بعد وضع عبد المهدي استقالته بتصرف المجلس النيابي الذي لن يقرها قبل الاتفاق على الحلول، ثانيا، الإطاحة بالمجلس النيابي قبل إنتاج تشريعات انتخابية تتيح إجراء انتخابات نيابية مبكرة. ثالثا، فتح معركة سياسية مع إيران على كل الجبهات وتعزيز العداوة الشعبية معها مقابل النعرات التاريخية السابقة، والتركيز على أن الدور الإيراني هو سبب تعويم الأحزاب الحاكمة وهو المسؤول عن الفساد ومصادرة رأي العراقيين، مع الإشارة هنا الى أن هذا المطلب يلتقي مع مطالب كلّ من هم ضد السلطة وتضرروا من تغيّر وجه العراق السياسي، ورابعا، التصويب على المرجعية الدينية بالنجف وتحميلها مسؤولية عدم التحرّك، مع أنّها لم تتبنّ سياسيا أيّ سياسي عراقي، ولم تغطّ احدا سابقا، لا بل أن كل خطابها المترافق مع الحراك كان عالي النبرة الى جانب مطالب الناس.
كذلك من الأمور المستجدّة في العراق ارتفاع نسبة العنف والدم، ولكن بعد ان كانت المرحلة الاولى تشهد عنفا من قبل الشرطة بوجه المتظاهرين، بتنا اليوم نشهد عنفا مقابلا، أيّ من المندسّين بوجه الشرطة، حيث يتمّ استعمال القنابل وإحراق المراكز الحزبيّة والسّياسية، مع التركيز بحسب المصادر المتابعة على مناطق جنوب العراق أيّ مناطق النفوذ الشيعي، الواقعة تحت سلطة الحشد الشعبي والمرجعيّة، مع الإشارة الى أنّ التحركات طالت مدينتي النجف وكربلاء المقدّستين، حتى ولو أن المدينة القديمة في النجف لا تزال محيّدة.
جاءت خطبة السيد علي السيستاني أمس على وقع كل هذه التطورات، والى جانب مطالبته باستقالة الحكومة، شهدت الخطبة نقاطا أساسية في الشكل والمضمون:
من حيث الشكل، تشدد المصادر على عبارة "نقرأ عليكم ما ورد من مكتب سماحة السيد بالنجف الأشرف"، مشيرة الى أنّ هذه العبارة تؤكد أن الكلام ورد على لسان السيد السيستاني لا مكتبه، لافتة الى أنّها استعملت في خطب الجمعة الأخيرة التي رافقت الحراك.
اما في المضمون فتشدد المصادر على وجود مجموعة نقاط أساسية، الاولى تذكير المرجعية أنها مع مطالب الناس المحقة، والثانية إدانة المرجعيّة للأعمال العنفيّة من أي جهة كانت والدعوة لدعم التعرض للأملاك العامة والخاصة، اما الثالثة فهي دعوة المتظاهرين لطرد المندسين لحقن الدماء، والتعاون فيما بينهم لإعادة تصويب مسار الحراك باتجاه المطالب المعيشية، وهذه المرة الأولى التي تذكر المرجعية فيها ضرورة عدم ترك الساحات والشوارع عرضة لأعمال المندسّين والمخرّبين.
وتضيف المصادر: "أما النقطة الرابعة، اذا ما استثنينا دعوة الحكومة للاستقالة، التي تحققت أمس، فهي دعوة المجلس النيابي لإقرار تشريعات انتخابية لأإجراء إنتخابات نيابية مبكرة، وتحميل السلطة مسؤوليّة عدم المماطلة بهذه التشريعات، ودعوة المتظاهرين لوقف الفوضى، لان التقاء الأمرين سيُعيد البلد الى عصر الدكتاتورية المقيتة".
وفي هذا السياق يمكن القول أن المرجعية تقصد بهذه الدكتاتورية المقيتة، حكم البعث العراقي وصدّام حسين، خصوصا وأنّ جماعة حزب البعث يحرّكون خلاياهم النائمة ويروجون لإسقاط الحكم واستعادة سلطته، ويصوبون هجومهم على مرجعيّة النجف، التي تشكّل المكان الأخير الذي يركن إليه الشعب العراقي، ما يعني أن ضربها سيجعل الشارع مستعداً لحرب داخلية أهليّة تعيده الى عصر البعث.
تستمر لعبة وسائل التواصل الخبيثة في العراق، كما في لبنان، وتُستخدم فيها فيديوهات قديمة تحمل مشاهد الذبح والقتل، لإثارة النعرات، وفي ظل كل ذلك تضيع حقوق العراقيين الحقيقية، والتي لا يمكن لسياسي عراقي أن يتجاهلها أو يعتبرها مشبوهة.