في خضم الأحداث في الوطن العربي سواء أكانت أحداثاً انتخابية في تونس والجزائر مثلاً أو حراكاً كما هو الحال في السودان ولبنان والعراق تتردد عبارة "القرار الوطني المستقل" ورفض التدخلات الأجنبية على لسان جميع الأطراف. والحقيقة أن معظم المعارك التي خاضتها بلدان عربية مختلفة وغير عربية أيضاً كإيران وفنزويلا وبوليفيا وتشيلي هي حول القرار الوطني المستقل لأنّ ما نشهده من شراسة الدول الاستعمارية السابقة والتي مازالت استعمارية ولكن بطرق مختلفة كعادتها ضمن سياستها القديمة "فرق تسد" منذ قرون هو محاولة وضع اليد بالقوة الغاشمة حيناً وبأساليب أخرى على ثروات الشعوب وإثارة الفتن الطائفية والسياسية بين أبناء هذه المجتمعات. وفي الوقت الذي أُدرك به أن القارئ تعب من تشخيص مثل هذه الحالات ويرغب باقتراح حلول تمكنه من العيش الآمن والعمل الكريم والهادئ في بلاده فإني أقول إن التشخيص لأحوال بلداننا لم يكتمل أبداً لأننا لسنا الوحيدين الذين نكتب تاريخنا ولسنا الوحيدين الذين نغذي عقول أطفالنا وأبنائنا بالقناعات والقيم التي نرغب أن يحملوها. وليس لدى أي بلد من البلدان المستهدفة اليوم رواية واحدة عن أي حدث مرّ به أو كارثة أصابته أو خطوات متعثرة قام بها. ذلك لأن أحداً من الذين عاشوا تاريخاً حقيقياً لم يساهم في كتابته ولم يرغب حتى بسرد مذكراته خوفاً من الإساءة لشخص أو عائلة أو مدينة أو قضية. وبهذا بقي الجميع أشخاصاً وبقي التاريخ شخصانياً أيضاً وبقيت رواية هذا التاريخ مختَلفَاً عليها ومتأرجحة جداً. ورغم كل الطمع في ثروات الوطن العربي وموقعه الجغرافي فلا شك أن المستوى الذي انحدر إليه الأمن والخدمات والعيش في هذه البلدان لم يكن فقط بسبب وجود مخططات استعمارية ولكنه كان أيضاً بسبب عدم مواجهة تلك المخططات بالحذاقة نفسها وآليات العمل ذاتها التي يستخدمها أعداؤنا وخصومنا. اليوم كل بلد عربي يحتفل بذكرى استقلال من أواسط القرن الماضي، ولكن لا توجد هناك قراءة دقيقة لما تمّ فعله بعد هذا الاستقلال ولا للثغرات التي تمكّن العدو أن ينفذ من خلالها، كما لا توجد قراءة واحدة أو متّفق عليها لأي حدث تاريخي مرّت به هذه البلدان مما يجعل أي تقييم لأي عنصر من عناصر الحياة مجرد وجهة نظر، ويختفي الفرق بين من يعلمون ومن لا يعلمون مع أن السؤال الإلهي واضح وصريح في القرآن الكريم "هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون" وأيضاً كما قال سبحانه "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ “. ومع ذلك نجد الآلاف من الطاقات المهاجرة وتلك التي لم تهاجر، غالباً لا تجد لنفسها منفذاً لتعمل في المجال الذي تبدع فيه وأحياناً تجاوباً مع حجج إدارية واهية لا علاقة لها بالعلم والإنجاز والتميّز. ففي الوقت الذي وضع الإنسان القانون كي يضبط إيقاع حياته وعمله وكي يتمكن من التفريق بين الغثّ والسمين وبين العطاء من جهة والسلب والانتهازية من جهة أخرى؛ فإن البعض في بلداننا قد حولوا بعض القوانين إلى أصفاد تمنع العجلة من الدوران وتضع الغث مكان السمين تجاوباً مع قوانين وأعراف ومخططات لم تدّعي يوماً أنها توصل أي مجتمع إلى الازدهار والتميّز.
المشكلة أننا نحسن تقليد الغرب في كلّ ما يضيع وقتنا ويقضي على المفيد من تاريخنا وزراعتنا وصناعتنا وغذائنا؛ فنجري وراء كل ما انتجه الغرب حتى وإن كان يتعارض مع طبيعة عيشنا ونقاط قوتنا والجغرافية التي ننتمي إليها. أي أننا بعد الاستقلال لم نضع الأسس لمراحل جديدة تشخّص بالضبط ما أراده المستعمر من بلداننا وتردّ عليه بالعمل لا بالقول، وتضع الرؤى والاستراتيجيات التي تضمن نقلة نوعية تؤسس لثقافة مجتمعية وطنية بعيدة كلّ البعد عن وجهات النظر المندسّة التي خلفها لنا العدو وزرعها ويعمل على سقايتها باستمرار في حاراتنا وقرانا ومدننا وبين ظهرانينا حيثما كنا. وإلا كيف يقتل الأخ أخاه بحجة الإصلاح وكيف تنقلب الفتن إلى فتن طائفية لا مستفيد منها إلا المستعمر ذاته بعد أن غيّر أساليب وطرائق استعماره من استقدام الجيوش إلى غرس المبادئ والأفكار في أذهان الأجيال بما يخدم خططه ودون أن يكلّف نفسه عبء تحشيد الطاقات أو استقدام القوى العسكرية. ذلك لأننا لم نؤمن بمبدأ الحوار ومعالجة الاختلاف مهما عمق وعظم من خلال الحوار وليس من خلال إقصاء الآخر أو تهميشه أو توجيه التهم إليه، وذلك أيضاً ودائماً نتيجة تغليب المنفعة الشخصية على المصلحة الوطنية العليا، وذلك أيضاً نتيجة الاستعانة باقلّ الطاقات كفاءةً لاعتبارات شخصية أيضاً وإقصاء القادرين على خدمة الأوطان بطريقة فذة. إذا كان الجميع مؤمنين أن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار فلن تقود خلافاتهم مهما عظمت إلا إلى مصلحة الوطن في جميع المجالات. حين بدأت الحرب على سورية قلت إن المستهدف الأول في هذا البلد هو قراره الوطني، وحين اتخذت الجامعة العربية عقوبات ضد سورية أصبح واضحاً أن الذين اتخذوا هذا القرار لا يملكون قرارهم المستقل حتى في بلدانهم، واليوم وبعد تسع سنوات رأينا كرة الثلج تتدحرج حتى على البلدان التي موّلت الحرب على سورية، وسلبوها حتى مظهر القرار المستقل والكرامة الوطنية. ولا أعلم لماذا لم يمتد إعجاب هؤلاء بالغرب إلى آليات عمله وحواراته الدائمة ومؤسساته والاتفاق دوماً على الأرضية المشتركة مهما بلغت الخلافات الأولية بينهم. أوَلا نراهم يجتمعون عبر المحيط ليناقشوا وضع لبنان ووضع العراق والحراك في هذين البلدين؟ كما يجتمعون دائماً للتآمر على سورية، بينما لا يتمتع العرب بمثل هذه المرونة والاجتماع لمناقشة كلّ صغيرة وكبيرة حتى يتوصلوا إلى الطريق الأسلم في إدارة البلاد.
ولا شك ايضاً أن المستهدف اليوم في أكثر من بلد عربي هو القرار المستقل ونبذ التدخلات الأجنبية؛ فهل فعلاً توصل القائمون على إدارة البلاد إلى هذه المرحلة من الوعي أم أنهم يقولون ما يرضي الناخبين والجماهير دون العمل الحقيقي على إرساء ركائزه وأسسه؟ إنه لمخاض عسير ذلك الذي يخوضه أكثر من بلد عربي، وإن الوعي والصبر والعمل الحقيقي والصادق والوطني أسلحة لابدّ منها في هذه المعركة المصيرية.
وأنا أرى الأخوة في لبنان والعراق في الساحات يزعمون أن الحل هو استقالة الحكومات أتساءل هل فكروا ماهي الخطوة التالية وكيف يمكن لاستقالة ما تبقى من أمل في حفظ النظام أو ردع الفوضى أن تكون مساعداً على خلق وضع أفضل وخدمات تلبي طموحات الجماهير؟ قد لا يخطر لهم ببال أن الهدف الأساس من تأجيج المشاعر بهذه الطريقة هو استهداف أركان الأمل بقرار وطني مستقل، وقد لا يخطر لهم ببال أن هناك من يدرس خطواتهم وتحركاتهم ويوجهها بما يخدم أهدافه بعيداً عن مصالحهم ومصالح أوطانهم وشعوبهم. لا اختلاف أبداً في الحاجة إلى الإصلاح والارتقاء في الأداء في جميع بلداننا العربية، ولكن كيف ومتى يمكن أن نصل إلى هذا دون أن تُختَطَف المشاعر البريئة ويتم تسخيرها لزيادة معاناة هذه الجماهير وحرمانها من التوصل إلى قرار وطني مستقل أو المحافظة على بعض الذي تمتلكه منه. لأننا وكما نرى فإن أول المستهدفين هم من حاولوا تثبيت خطواتٍ خجولة نحو قرار وطني مستقل.