حدثان بارزان في كل من واشنطن وبكين، استحوذ الأول على اهتمام إعلامي واسع فيما الحدث الثاني في بكين لم يأخذ حقه من التغطية والمتابعة على الرغم من أهميته وارتباطه ارتباطاً وثيقاً بمستقبل منطقتنا العربية.
الحدث الأول في واشنطن التي شهدت فيها أروقة الكونغرس الأميركي وقائع تقرير سفير الولايات المتحدة الأسبق جيفري فيلتمان حول مآلات الأوضاع في لبنان والمنطقة.
تقرير فيلتمان تضمن اعترافاً صريحاً بإثارة الفوضى والإصرار على استمرار عملية الضغط الأميركي على لبنان من خلال الخنق المالي والاقتصادي المفتعل، والتهديد بتجويع الشعب اللبناني لإنقاذه حسب المفهوم الأميركي من سورية وإيران وروسيا لمصلحة حلفاء أميركا في المنطقة، أي الكيان الصهيوني.
اللافت أن فيلتمان افتتح مداخلته بالحديث عن أهمية موقع لبنان الجغرافي على البحر المتوسط وأهمية امتلاكه النفط والغاز وخطورة تمدد روسيا إلى لبنان بعد تمترسها في سورية، معتبراً ذلك أنه سيشكل ضربة قاصمة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، كما أنه لم ينسَ أن الصين قد تشكل خطراً على الولايات المتحدة في لبنان وخاصة إذا ما وجد اللبنانيون تقنية الجي 5 الصينية جذابة لهم في ضوء الوضع المتردي لشبكة الاتصالات في لبنان، وباختصار وجد فيلتمان أن لبنان يشكل مكاناً لتنافس قوى دولية وأن الولايات المتحدة يجب ألا تسمح لسورية وإيران وروسيا أن يأخذوا مكانها في لبنان.
خلاصة القول: إن هذا هو أساس اعتبارات الولايات المتحدة في التعامل مع دول منطقتنا بما يتناسب ومصالحها ومصالح العدو الإسرائيلي من دون أي اعتبار لمصلحة لبنان كوطن ذات سيادة والشعب اللبناني صاحب الكرامة الوطنية.
أما الحدث الثاني فهو انعقاد منتدى أمن الشرق الأوسط في بكين والذي حضره أكثر من 400 شخصية سياسية وعسكرية واقتصادية وبحثية من مختلف بلدان العالم وخاصة منطقتنا العربية، ومما قاله مساعد وزير الخارجية الصيني تشن شياو دونغ خلال كلمة ألقاها في افتتاح المنتدى: إن الأمن والسلام والاستقرار والتنمية للمنطقة هو ما ترغب فيه الصين الأمر الذي يلقي مسؤوليات على عاتقها. مضيفاً إن إقامة المنتدى يهدف إلى بناء منصة تستفيد منها الأطراف المعنية في إيجاد أفكار وسبل جديدة لتحقيق أمن الشرق الأوسط، وأشار تشن إلى رغبة الصين في بذل جهود مشتركة مع الأطراف المعنية في الحفاظ على الاستقرار والتنمية في الشرق الأوسط، للمساهمة في دفع السلام المستدام والأمن الشامل في العالم، كما أكد على خمسة محاور:
1- أهمية العدالة والإنصاف للأمن الدائم في الشرق الأوسط.
2- التعددية وسبل حل القضايا الساخنة.
3- تعزيز الأمن من خلال التنمية وشروط تحقيقها وسبل التعاون.
4- دور حوار الحضارات في مكافحة الإرهاب ونزع التطرف.
5- عدم التدخل في السياسات الداخلية لدول المنطقة.
إضافة إلى مبادرة الحزام والطريق الذي يعتبر نموذجاً للسياسة الحكيمة التي تقودها الصين في منطقة الشرق الأوسط والقائمة على مبدأ المشاركة والتنمية بهدف المنفعة المتبادلة. وأكد أنه بهدف نجاح المبادرة في المنطقة لا بد من السعي إلى إحلال السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط إذ إن الأوضاع الأمنية الآن متدهورة للغاية، وإقامة الصين لمنتدى أمن الشرق الأوسط هو مؤشر على زيادة اهتمام الصين بالمنطقة وأنها جادة بالتباحث والسعي لحل مشاكل الدول المأزومة، وإننا في المنتدى نعمل لذلك ونتطلع لزيادة الدور الصيني في العلاقات الصينية الشرق أوسطية ما يسهم بدفع الأطراف كافة إلى الحوار بهدف حل النزاعات القائمة وفق مبادئ ومقررات الشرعية الدولية.
في مقارنة أولية بين الحدثين في واشنطن وبكين لا يحتاج المرء لكثير من التبصر والبحث ليكتشف الفارق بين مفهوم العدالة الاجتماعية والمنفعة المتبادلة والفائدة بين شعوب الدول والسلام التي تسعى الصين إلى تحقيقه في منطقتنا وبين مفاهيم الولايات المتحدة الأميركية القائمة على التسلط والعربدة والسطو على مقدرات وثروات منطقتنا من خلال إثارة الفوضى والنعرات، وافتعال الأزمات المستدامة وزرع الفتن بين دولنا العربية من أجل إيجاد الحجة لاستمرار هيمنتها على أنظمة المنطقة، والاستيلاء على ثروات بلادنا ومنع شعوبنا من التقدم العلمي وذلك ضماناً لبقاء التفوق الإسرائيلي وحمايته.
وإذا ما عدنا بالتاريخ إلى نشأة الولايات المتحدة الأميركية التي لم تكن لتتحقق إلا بعد تنفيذ فكرة القضاء على وجود وثقافة الهنود الحمر وذلك بعد ممارسة أبشع أنواع القتل والعربدة ومصادرة الأرض والسطو على ممتلكات الهنود الحمر بالقوة، وبالمقارنة بين ما قامت به أميركا في الماضي وما تفعله الولايات المتحدة الأميركية مع دول العالم نرى أنها لم تزل تتبع الأسلوب ذاته مع شعوب منطقتنا وشعوب العالم وبالمعايير نفسها التي اتبعتها مع الهنود الحمر سكان أميركا الأصليين، كما أننا وفي نظرة سريعة على سياسات أميركا المتبعة مع شعوب ودول العالم نرى وبوضوح انعدام المعايير الأخلاقية والإنسانية وحتى الديمقراطية منها مع أي دولة توجد فيها عسكرياً أو أي شعب أراد الخروج من تحت العباءة الأميركية مثل البرازيل وفنزويلا وبوليفيا والبيرو واللائحة تطول.
وفيما يخص بلادنا العربية فالولايات المتحدة الأميركية لم تعر يوماً أي اهتمام بأعداد القتلى من الأبرياء والمشردين والنازحين واللاجئين، ولا بعدد الضحايا الذين يموتون جوعاً في العراق واليمن وسورية ولبنان وليبيا والسودان والجزائر والصومال وموريتانيا وأفغانستان، بيد أن اهتمام أميركا في منطقتنا نابع من خلفية الجشع والطمع في تأمين مصلحة أميركا من خلال السيطرة على ثرواتنا النفطية والسطو على مدخرات العرب في المصارف الأميركية وتأمين أمن العدو الإسرائيلي.
إذاً، هناك انعدام لأي معيار إنساني أخلاقي في القاموس الأميركي.
الواقع لا توجد معادلة أخلاقية بين الصين والولايات المتحدة، فالصين تتمسك دائماً بالسلام والتنمية والعدالة، على حين تسعى الولايات المتحدة المتمحورة حول الذات إلى تحقيق مكاسب أنانية على حساب غيرها، وأن تطلب الانسحاب من الالتزامات والاتفاقات المبرمة متى شاءت طبقاً لمتطلبات مصلحتها الذاتية تماماً كما فعلت باتفاقية باريس المناخية والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وذلك الإيهام بشعارها الكاذب وهو «كل من يقف معي سوف يزدهر وكل من يقف نداً لي فهو هالك».
لقد ثبت بما لا يقبل الشك صحة الرؤية الإستراتيجية التي تبناها الرئيس بشار الأسد حين قال: لقد قررنا التوجه شرقاً أي نحو روسيا والصين لأن هذا التوجه يؤمن مصالحنا الإستراتيجية.
يبقى أن نشير إلى أنه ورغم الفيتوات الصينية في مجلس الأمن إلا أن علاقات الصين التجارية المعقدة مع الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى علاقاتها المتينة مع الكيان الصهيوني الآخذة بالتطور التكنولوجي تشكل عائقاً يمنع الصين من لعب دور فاعل في الدفاع عن قضايانا العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية والإسهام بشكل فاعل في دعم مسيرة إعادة إعمار سورية التي باتت تشكل البوابة الرئيسية للدفاع عن الصين وروسيا.