خسر رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري معاركه السابقة في حروب سياسة "عضّ الاصابع"، وكان في كل مرة يسعى الى الحدّ من خسائره، عبر اقامة تحالفات ونسج شبكة أمان داخليّة تؤمّن له تمرير مرحلة صعبة يستعد معها لمرحلة جديدة. لا يختلف الوضع اليوم عما سبق، ويبدو ان الحريري قرر الدخول منذ اسابيع في رهان جديد على معركة محصّناً أصابعه هذه المرة بالتحرّك الشعبي الذي اعتبره مسانداً له وداعماً لمواقفه ولافكاره وتوجهاته. تسلّح رئيس الحكومة المستقيل بالتحرّك، لم يكن عدّته الوحيدة، فترسانته من الاسلحة هذه المرّة تشتمل على رهان كبير على دعم اقليمي ودولي لعودته الى السراي الكبير، ورغبة داخلية في عدم اشعال نار المواجهة الطائفيّة التي بدأت تُطبخ على نار هادئة، علماً ان مقومات نضوجها لا تزال معدومة.
هذه المعركة اعادت الحريري الى حضن نادي رؤساء الحكومة السابقين، وتقرر فتح صفحة جديدة معهم رغم الحذر الكبير الذي طبع علاقتهم منذ ما قبل التسوية الرئاسية وحتى الامس القريب، كما انه اعطاه الحافز الكافي لفرض شروطه واعتباره بمثابة مكوّن اساسي لاي تركيبة حكومية ستبصر النور في الفترة المقبلة. صحيح ان العلاقة مع حزب الله باتت اكثر سلاسة من قبل، ولكن الكلام الصادر عن النائب محمد رعد منذ ايام حدد الاطر الجديدة للعمل، رغم كل التحفظات على ما استشفّ من موقفه هذا من "احادية" في التعاطي واستقواء على الجميع، الا انّ الواقع يفرض التعاطي مع هذا الكلام بجدّية وتبصّر.
رعد اوضح بما لا يقبل الشك، ان كل من يراهن على ان التحرك الشعبي او التحالفات الداخلية والخارجية قادرة على تقليص او فرض امور على حزب الله بالقوة، سيجد نفسه خاسراً، وان الوقت ليس عامل ضغط بالنسبة الى الحزب، بل على العكس بامكانه (اي الحزب) التكيّف معه واستعمال كل الوسائل الكفيلة بتخطّيه، وذلك بالاستناد حكماً الى تجارب سابقة وجد الحزب نفسه فيها في موقع حرج لعل ابرزها واكثرها خطورة كانت في العام 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، ورغم ذلك، تمكن من الصمود واعتمد سياسة "النفس الطويل" لامتصاص الصدمة وكسر حدّة موجة الخطر المحدقة به، ثم اعاد الكرّة عامي 2006 و2008.
اليوم، لا يجد الحزب نفسه مستهدفاً بصورة مباشرة، انما بطريقة غير مباشرة، لذلك نجده اكثر تمسكاً بالحريري من قبل، ولكنه يرفض اي شروط تفرض عليه، يجدها تشكل خطراً على وضعه وشعبيته، وبالتالي ومع اهتمامه بتمرير هذه المرحلة بالسرعة اللازمة وبأقل قدر من الخسائر، الا انه يبدو الاكثر قدرة على تحمّل الضغوط بين سائر الافرقاء، وفي مقدمهم الحريري. ولعل التقارب الحاصل ومحاولات التفاهم بين السعودية وايران والتي اخذت تتسارع بعد وصول زيارة وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي الى طهران، تشكّل بالنسبة الى الحزب متنفساً مهماً. على أيّ حال، بدأ الاطراف اللبنانيون يشعرون بالوجع جرّاء هذه المعركة، مع اشارة لافتة الى انّ الرابح في هذه الجولة لن يكون الحاكم المطلق، والخاسر لن يجد نفسه معزولاً او منبوذاً، فيما بدأت الشكوك الكبيرة حول نتائج الحراك والجهود التي بذلها المواطنون لحصول تغيير تمنّوه ان يكون جذرياً وينقلهم من حال الى أخرى، بدل اعتماد اسلوب "عفا الله عما مضى" ودون أيّ خطوات جدّية تلمح الى امكان حصول اصلاح حقيقي يضع لبنان على الطريق المستقيم المطلوب، ليس في الفترة القريبة فحسب، بل لمدّة كفيلة بالتعاطي بشكل جيّد وصائب مع الخطوة الموعودة بالانضمام الى نوادي الدول النفطيّة.