منذ يوم الأحد الماضي، ضجّت وسائل الإعلام بالأنباء عن إقدام بعض المواطنين على الإنتحار، حيث سجلت الحالة الأولى في بلدة عرسال البقاعية. في أغلب الأحيان قيل أن السبب هو الأوضاع الإقتصادية والمعيشية، لكن كما كل شيء في البلاد انقسم اللبنانيون في كيفية التعامل مع هذه الظاهرة، إلا أن الأكيد هو أن ما يحصل اليوم على أرض الواقع من حراك شعبي أدّى إلى التركيز عليها على نحو غير مسبوق.
الإحصاءات الرسمية، تؤكد أن لبنان لم يكن بعيداً عن هذه الظاهرة، بالرغم من إرتفاع عدد الضحايا في السنوات السابقة، وكانت على الشكل التالي: 128 في العام 2016، 143 في العام 2017، 155 في العام 2018، أما في العام الحالي فقد بلغ حتى شهر أيلول 105.
يعرّف الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم الإنتحار بأن جميع حالات الوفاة، المباشرة وغير المباشرة، الناجمة عن فعل إيجابي أو سلبي من قبل الضحية، الذي يعرف أنها سوف تؤدّي إلى هذه النتيجة، ويميّز بين 3 أنواع للإنتحار:
الأناني، ينطوي على مبالغة الفرد لنفسه فتغيب لديه صورة الآخر، مما يؤدي إلى انعزاله عن مجتمعه وتمركزه حول نفسه، مع غياب القدرة على إيجاد مبررات مقنعة وأسباب قويّة لوجوده وإستمراه في الوجود.
الايثاري، ينبثق من تكامل قوي وروابط إجتماعية صلبة، لدرجة ذوبان النزعة الفردية في التكامل والتضامن الإجتماعي، حيث يرى الفرد أن بقاء الجماعة أولى من بقائه.
الفوضوي، ينتج عن الخلل الذي يعمّ النظم الاجتماعية السائدة، نتيجة التغيرات الاجتماعية المفاجئة والسريعة، حيث يفكر الفرد في الإنتحار عندما تتزعزع أو تتحطم علاقاته بالمجتمع، كفقدان حبيب أو وظيفة.
وفي سياق بحث نُشر في دورية الجمعية الطبية الكندية، تبين أن أسلوب تغطية وسائل الإعلام لحالات الانتحار ربما يؤثر في اتخاذ آخرين لقرار وضع حدّ لحياتهم بعد أيام من حادثة الانتحار الأصلية، حيث توصل الباحثون إلى أنه من بين العوامل التي قد تتسبب في زيادة عدد الحالات، ذكر الوسيلة في عنوان القصة الصحفية وسرد تفاصيل كثيرة عنها، والحديث عن شدة الفتك بالأسلحة النارية، ونشر تصريحات تجعله يبدو أمراً حتمياً.
من وجهة نظر المديرة التنفيذية لجمعية "EMBRACE" لينا زينون، فإن الضغط الإجتماعي قد يسبّب الإكتئاب وزيادة الضغط النفسي عند المواطنين، ويزيد من هذا الواقع عند الأشخاص الذين يعانون من هذه الحالات، ومن الممكن أن يؤدي إلى الإنتحار في حال عدم المعالجة، وترى أن الحماية تأتي من خلال تبادل الحديث بين الأشخاص أو من خلال الإتصال بالخط الساخن للجمعية 1564.
وتشدد زينون على أهمية طريقة تعامل وسائل الإعلام مع حالات الإنتحار، لأنها من الممكن أن تؤدي إلى خفض الأعداد أو زيادتها، عندما يتم عرض وسائل الإنتحار أو تحويل الضحية إلى بطل، وبالتالي دفع الأشخاص الذين يعانون من مرض نفسي إلى الإنتحار.
من جانبه، يرى الخبير النفسي محمد بدرا، في حديث لـ"النشرة"، أن الأسلوب الأمثل لمعالجة هذه الظاهرة هو العمل على مكافحة أسبابها، وبالتالي تجنيب الأشخاص الوصول إلى لحظة الإنتحار، لكنه يشدد على أن الأرقام الحالية لم تتخط المعدل العام في لبنان، لا بل هي كانت في عامي 2012 و2013 أعلى.
ويحذر بدرا من دور وسائل الإعلام في التعامل مع هذه الظاهرة، التي تبدأ من السعي إلى إظهار أن الأزمة القائمة من دون أفق عبر شيطنة الحلول التي تطرح، الأمر الذي يزيد من حالات الإحباط لدى المواطنين، بالإضافة إلى الإضاءة على الحالات التي تحصل على نحو غير مسبوق.
ويشير بدرا إلى أن المنتحر لديه رسالة يريد إيصالها إلى الجماعة، ومن لديه ميول أو نوايا عندما يرى، في حالة التكرار ضمن فترة زمنية قصيرة، بأن المنتحر الأول تلقى كماً هائلاً من التعاطف، يشعر بنوع من التشجيع على القيام بهذه الخطوة، على قاعدة أن هذه فرصته من أجل إيصال صوته.
ويلفت إلى أن وسائل الإعلام نفسها تلعب الدور المزدوج، أي الشيطنة وتمجيد المنتحر، ويرى أن عليها تحمل مسؤولياتها في ظل اللحظة العصيبة التي تمر بها البلاد، على المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
في المحصّلة، قد يكون عملاً عبثياً محاولة محاكمة من يقدم على مثل هذه الخطوة، لكن الأكيد أنه من الضروري العمل على مساعدة من لديه النوايا النفسية، بدل تشجيعه على الإنتحار من خلال الإيحاء بأنه سيتحول إلى بطل في نظر المجتمع.