يسود الإرباك في صفوف القيادات السياسية و"الحراك" الشعبي في لبنان، في ظل تزاحم الأسئلة حول طبيعة المرحلة الآتية: ما هي الخطوات المرتقبة بدءاً من نهار الإثنين؟ هل تحصل الإستشارات النيابية في القصر الجمهوري، أم تؤجّل؟ وإذا تمّت، فمن يُكلّف؟ في حال جرى تكليف الإسم المطروح: سمير الخطيب، هل يستطيع أن يؤلّف حكومة؟ متى؟ وإذا حصل التأليف، هل تحوز الحكومة العتيدة على الثقة النيابية؟ ولنفترض أنها حازت على الثقة النيابية، فهل ستحوز على ثقة الشعب؟ أم أنها ستسقط بعد عمر قصير في الشارع؟ وفي ظلّ كل تلك الأسئلة الإستفساريّة، يرصد اللبنانيون واقع الإقتصاد الصعب، ويسألون: إلى متى يتحمّل المواطنون صموداً مكلفا؟ وهل تستطيع الحكومة الجديدة تقديم حلول سحرية ومعجزات في ظروف صعبة؟.
كلها تشكّل هواجس عند اللبنانيين إستعداداً لما هو آت، بغياب الأجوبة الشافية التي ليس بمقدور أحد معرفتها أو إلتقاط إشاراتها. لا يمكن تقديم جواب واضح بشأن الأسئلة المعلّقة أعلاه. اللبنانيون تائهون، فلا هم يريدون الفراغ المؤسّساتي، ولا هم يرغبون بحصول فوضى أو حروب داخليّة، وفي الوقت نفسه يترقّبون الرفض المُمنهج لمسار تأليف الحكومة المرتقب. لم يعد البلد يتحمّل مزيداً من التدهور، إلى حدٍّ أن بنيته تتعرض للإهتزاز. ومن هنا جاءت الصرخة عالية تحذّر من موجات هجرة لبنانية نحو دول أوروبيّة وأميركيّة، تذكّر بما حصل مع اللبنانيين في مطلع القرن الماضي، منذ حصول المجاعة والحرب العالمية الأولى، وما أنتجته من موازين قوى دولية فرضت تركيبة لبنانيّة ضمن مشهد إقليمي متغيّر.
بعد مئة عام على إعلان دولة "لبنان الكبير"، هناك من يطرح سرّاً وعلناً "وجوب تغيير نظام لبنان"، المسؤول عن النكبات الإجتماعيّة والإقتصاديّة فيه. يتعدّى الطرح حدود لبنان، ولم يعد يتعلق باللبنانيين. بل إن عواصم غربيّة وشرقيّة لا تزال تجري دراسات وترصد مسار الإقليم لمعرفة الشكل الجيوسياسي الجديد الناتج عن الإنتفاضات أو الحراك الشعبي.
لا يمكن البناء على إستنتاج واحد فيما خصّ المتغيّرات. هناك من يرى أن التسويات المحليّة قادرة على لملمة الأزمات في كل دولة. لكن يسقط هذا الرهان أمام استحضار أزمات الإقليم. لم تنجح مشاريع الحلول المحليّة لا في اليمن، ولا في ليبيا، ولا في سوريا. ولم تصمد تلك المشاريع في تونس أو السودان أو العراق. ممّا إستدعى تدخلات خارجيّة عبر وساطات أو فرض خيارات دوليّة.
هل تعني تلك التجارب أنّ أزمة لبنان لا يمكن ان تحلّ من دون تكرار سيناريوهات الإقليم؟ خصوصا ان اللبنانيين اعتادوا على الوساطات الخارجيّة لحل مشاكلهم، على الأقل منذ توقيع اتفاق الطائف في السعودية، وصولاً الى إتفاق الدوحة في قطر، وما بينهما وبعدهما من دور سوري-سعودي أنتج معادلة السين-السين يومها. هناك من يجزم أن التسويات العابرة لم تعد تنفع في لبنان، بسبب طبيعة الأزمة الحاليّة، ومخاطرها الإقتصاديّة الّتي أدخلت لبنان في دورة مؤلمة، قد تكون تداعياتها طويلة الأمد. ممّا يعني أنّ الحل سيكون جوهرياً على مستوى إعادة تركيب منظومة سياسية متكاملة ينتجها نظام جديد. يعني ذلك أن الدستور مطروح للتعديل في حال لم يتم القبول بتنفيذ ما بقي عالقاً من بنود اتفاق الطائف. إضافة الى الأخذ بعين الاعتبار التبدلاّت الدولية والإقليمية الحاصلة نتيجة تقدّم الروس وتمدّد الصينيين وانكفاء الأميركيين وإمساك الإماراتيين مفاصل اللعبة العربية.
اولاً، في حال تمّ طرح تعديل العقد الإجتماعي اللبناني، ما هو المطلوب؟ يردّد مراقبون أن طرح الدولة المدنيّة هو الأنسب وليس بالإمكان تجاوز أهميّة هذا الطرح الذي سينقل البلد من النزاع الى الإستقرار، لكن الحسابات الطائفيّة ستمنع إقراره بسهولة، مما سيولّد أزمة نقاش مفتوح، ستؤدّي إلى إطالة عمر الأزمة لأمد غير مرئي. علما ان إستكمال تطبيق اتفاق الطائف أيضا، بشأن الدوائر الانتخابية وإلغاء الطائفية السياسية سيولّد نزاعاً سياسياً كما تشير المعطيات، نتيجة رفض قوى مسيحيّة من أن يؤدّي ذلك التطبيق إلى ذوبانهم تدريجياً وفقدانهم للدور الريادي في لبنان.
الأمر الثاني، هو الحلّ الخارجي الأوسع في الإقليم. ينتظر السيناريو سلّة متكاملة لم تتّضح معاييرها بشكل نهائي. لكن المؤكّد أنّ الأميركيين انكفأوا تدريجياً عن المنطقة، مقابل تقدّم الروس. موسكو اكثر واقعيّة وقبولاً في المشرق، وهي التي قاتلت او دعمت لمنع سيطرة الإرهابيين. لا يمكن للروس الإنكفاء عن المشهد الإقليمي، مما يعني أنّ سقوط لبنان في أزمات ونزاعات قد تجرّ البلد الى الفوضى هيّ خط روسي أحمر. يتعدّى الأمر إهتمام موسكو، الى دور عربي مباشر تتولاه الإمارات العربية المتحدة التي تدعم استقرار مصر، وترسّخ سلام سوريا، وتتعاطى مع اللبنانيين الآن على أساس انها الحاضنة العربية لهم.
واذا كانت سياسة الامارات تنسجم مع دمشق وموسكو والقاهرة، فإنّ مشكلة اليمن لا تزال تعكّر صفو العلاقة مع طهران. لكن مشروع الحل اليمني مطروح بجديّة قد تنقل السباق بين الإيرانيين والخليجيين الى توافق على ملفّات المنطقة. عندها سيكون لبنان مستقراً بفضل مشروع الإتفاق الإقليمي والدعم الروسي.
فهل يعني كل ذلك ان الاستقرار مستبعد في لبنان الى حين بت الخلافات الإقليمية؟ نعم، رغم ان التسويات المحلية البسيطة ستكون مهتمها تمرير الوقت لا اكثر، بإنتظار التوافق الإقليمي الإيراني-الخليجي. لكن ماذا عن إسرائيل التي تحرّك الأميركيين وتحث الأوروبيين على عدم دعم لبنان سياسيا ومالياً في حال لم يلتزم اللبنانيون بحلّ ترسيم الحدود وضمان الأمن وبت ملفات حقول وخطوط الغاز في البحر؟ يرمي مطّلعون كرة الأزمة اللبنانية في هذا الملعب. لكن الإجابة سهلة: وحدهم الروس قادرون على ضبط النزاع وتأمين الضمانات المتبادلة لعدم قيام أيّ حرب. يستطيع ان ينجح الإتّحاد الروسي بلعب هذا الدور، مما يعني دخولنا في لبنان في العصر الروسي، الذي سيحتّم فرض الحلول بعد نجاح التسويات الإقليميّة على الخط الخليجي-الإيراني، من خلال دور إماراتي بدأت نجاحاته في سوريا انتصاراً لدمشق، وستصل الى لبنان على ذات الأسس والمعايير، أيّ محاربة التطرّف وإجهاض المشاريع "الإخوانيّة"، وتقريب وجهات النظر اللبنانيّة. فلا يمكن للإمارات ان تنجح في لبنان من دون لعب دور الوساطة التي تقوم على أساس المسافة الواحدة من كل الأفرقاء. فهي الأقدر عربياً على النجاح بتلك المهمة، خصوصا بعد فرض دورها الإيجابي في سوريا.